بعيداً من نيلها الجائزة الأولى في القائمة القصيرة لـ”البوكر العربية”، تكتسب رواية الجزائريّ عبد الوهّاب عيساوي “الدّيوان الإسبرطيّ” أهميتَها (واستحقاقَها التقدير كما أرى) من جَمعِها بين المادة التاريخية المعروفة تقريبًا، من تاريخ الجزائر، وبين مادّة تخييليّة غنيّة بالتفاصيل والصور والمشاهد الإنسانية التي تنتمي إلى أيّ واقع إنسانيّ، عابر للتاريخ في رسالته ذات الأبعاد المتعدّدة، الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي الأساس رسالة المواجهة الدّينية، بين الهلال والصليب، بطابعها الرّوحانيّ حيناً، أو الدّين الذي يجري استغلاله للمصالح تارة. عوالم سنحاول أن نعرض لها في هذه القراءة.
من خلال خمس شخصيّات أساسيّة؛ الصحافيّ الفرنسيّ ديبون، وكافيار الجنديّ ضمن الحملة الفرنسية، وثلاثة جزائريين هم حمّة السلّاوي وابن ميّار والفتاة المشرّدة دُوجة، وعدد من الشخصيات الهامشيّة، والحوادث المركزية والثانوية، يبني عيساوي روايته الكبيرة نسبباً (384 صفحة)، ويأخذنا في عوالمه/ عوالم أبطاله المتداخلة والمتشابكة، عوالم تنطوي على صراعات بين الشخصيّات لتحقيق الذات، وصراعات أكبرَ بين القُوى الباحثة عن الهيمنة والسُّلطة والمال. هي عوالم الرّعب والعنف والدمّ والجثث والعداوة والكراهية، من جانب، بقدر ما تنطوي على قدْر من الحبّ والفرح والحميميّة، من جانب مقابل. وذلك كلّه بمقدرة عالية في التصوير والسّرد لأصغر التفاصيل، واللغة الرّفيعة المائلة إلى قدر من الشّعريّة المُفارِقة وغير المألوفة أحياناً.
حادثة “المَرْوَحة” المشؤومة
وإذ يجوز القولُ إن الروائيّ يقوم بتوظيف مادّة تاريخية موزّعة على السنوات بين 1815 و1833، أي الفترة ما بعد هزيمة نابليون في معركة واترلو الشهيرة، وبين مرور ثلاث سنوات على غزو فرنسا للجزائر واحتلالها، فإن الحادثة التاريخية الأبرز في الرواية، والتي يستند الفرنسيون عليها في تبريرهم وتعليلهم ذلك الغزو، هي حادثة “المَروَحة”، التي صفَع بها الباشا حسينُ العثمانيّ قنصلَ فرنسا في الجزائر، بسبب ما اعتبره الباشا “وقاحةً” في ردّ القنصل دوفال عليه، حين سأله عن عدم تجاوب الملك الفرنسي مع رسائله بخصوص دَين لتركيّا على فرنسا، فقد ردّ القنصل بما معناه أن الملك لا وقت لديه للرد على “أمثال” الباشا، فما كان من هذا إلّا أن رماهُ بالمروحة.
ثمّ إن الباشا هذا، ظلّ لسنوات يرفض الاعتذار عمّا اعتبرته فرنسا إهانة لها، من خلال إهانة قُنصلها، فحشدت أساطيلها وقادتها العسكريين وقامت بحملتها “لتخلّص الجزائر من الاضطهاد العثماني” بحسب التبريرات التي صدرت من غير مصدر فرنسيّ، ومنها قائد عسكري كبير (بورمون) يؤمن بالحرية والعدالة للشعوب. فهل كانت هذه الحادثة، وحدَها، كافيةً للقيام بالغزو والاحتلال لمدة مائة وثلاثين عامًا وأكثر؟ أم أنها كانت مجرد ذريعة لتنفيذ مخطّطات مسبقة؟!
الرواية لا تحسم ما إذا كانت تلك الحادثة هي “السبب”، أو أنّها قد تكون سبباً مباشراً في الغزو، لكنّها ترصد سلوكيّات الدولة العثمانية في العالم آنذاك، حيث كانت، وباسم الدِّين الإسلاميّ، تتمدّد على رقعة واسعة من المعمورة، وتقوم بفرض “الإتاوة” على الحركة في المياه الدوليّة، عبر ما يدعوه الفرنسيّون “عصابات البحار”. لكن الدولة ذاتها، وفي الوقت نفسه، كانت قد بدأت تعاني “الشيخوخة” بعد قرون من “استعمارها” لدول في المشرق والمغرب، كما أنها، وكما تظهر في الرواية، إمبراطورية تعاني أشكالاً من الفساد، وصُورًا من الاضطهاد للشعوب التي تستعمرها. وبحسب الرواية أيضاً، فإن ما يجعل هذه الشعوب ترضخ لحكم السلطان العثمانيّ الجائر، هو “الشّراكة” في الدِّين الإسلاميّ فقط.
الرواية تتوزّع على خمسة “أقسام”، في كلّ قسم خمسة فصول، فصلٌ لكلّ شخصية من الشخصيات الخمس. يفتتح عيساوي روايته بنصّ للشاعر الألماني غوته من “الدّيوان الشرقيّ”، حول المائدة التي يقدّمها كلّ من الشرق والغرب “الشّرقُ والغربُ على السَّواء/ يُقدّمان إليك أشياءَ طاهرة للتذوّق/ فدَعْ الأهواءَ، ودَعْ القشرة/ واجلسْ في المأدُبة الحافلة/ وما ينبغي لك، ولا عابراً/ أن تنأى بجانبك عن هذا الطّعام”.
تبدأ الرواية مع الصحافي الفرنسي ديبون، في مرسيليا مارس 1933، يتلقّى رسالة ممّن كان يُفترض أنه صديقه كافيار، الذي يتكشّف عن شخص حاقد وكاره للبشرية، ثمّ انتهازيّ يتسلّق من جنديّ في الحملة على الجزائر ليغدو أحد القادة فيها، رسالة كافيار هذه يُظهر فيها ديبون مجرّد شخص ممتلئ بالأوهام، وينصحه بالتخلّي عن أوهامه المتعلّقة بحُريّة الشعوب، وهي هنا الشعب الجزائريّ.. إذ أنّ كافيار هذا يعتقد بتخلّف الشّعوب وحاجتها إلى “التحضير”، لكنّه الذي يضع الخطط للمعارك والقتل والتدمير، وتحويل المساجد إلى ساحات عامّة أو كنائس. وقد أبدع المؤلّف في بناء شخصيته على النحو الكَريه الذي تظهر فيه، خصوصاً نظرته “الاستشراقيّة” النمطيّة الكارهة لكلّ ما هو عربيّ (وتركيّ)، ربّما نتيجة عذاباته في سجون الأتراك، كما نفهم من مخاطبة صديقه ديبون قائلاً له إنك “تؤثِر الانتصار لروحك التي عبّأتْها سنواتُ الأسر والعُبوديّة بمشاعر مُظلِمة”.
تجارة العِظام البشريّة
منذ البداية، نقف على مشاهد الرعب المتمثّلة في المتاجرة بالعِظام البشرية، التي يحتاج إليها أصحاب مصانع السُّكَّر “يستعملونها لتبييضه”، هذه العظام التي سيكشف عنها الصحافيّ ديبون، برفقة طبيب متخصّص، في سفينة قادمة من الجزائر، وسيكتب عنها تقريره المثير لصحيفته “لوسيمافور دو مرساي”، الصحيفة التي سترسله مراسلاً مع حملة غزو الجزائر. وفي الجزائر سنتابع عمليّات نبش القبور للحصول على هذه العِظام، جماجم أطفال وسيقان كهول.
وسيخوض الصحافيّ ديبون نقاشات عقيمة حول ضرورة الحملة، ثم سيذهب ويرى حجم العنف والدم، وكلّ ما يتمنّاه هو “استسلام الجزائريّين” بدلًا من سفك الدّماء والدّمار الهائلين! وهو يجادل باسم الربّ والمسيح والمبادئ الإنسانية، لكنّ “مثاليّته” تضيع وسط هدير الموت الذي يدعو إليه صديقه كافيار، فيحدث الصِّدام والافتراق. ثمّ إنّه يشكّك في جدوى مشاركته في “الحملة”، بل هو يرفض أن تسيل قطرة دم واحدة باسم الربّ، أو بدعوى أنّ هذه الحملة “ليعُمّ نورُ الربّ أفريقيا.. يتناقض النّور مع لون الدمّ، والسّلاح مع الكلمة، والمحبّة مع الكراهية”. إنه شخصية تحفر عميقًا وإيجابًا في وِجدان القارئ.
في الجانب العربي، تبرز شخصيّات ابنُ ميّار والسلّاوي ودُوجة، وهي ذات تأثيرات متفاوتة في الرواية وحوادثها، ففي ظل ممارسات القمع والاضطهاد، من العثمانيين أوّلاً، ثم الفرنسيّين الذين يُظهرون من العنف أكثر ممّا يُتوقّع من هؤلاء “المتحضّرين”، يبدو مجتمع “المحروسة”، التي ستُعرف لاحقًا باسم “إسبرطة” بسبب حجم العَسكرة الهائل فيها، حيث تقع حوادث الرواية، مُجتمعًا خانعًا وبلا أيّ مقاومة تُذكر، سوى بعض المعارك والمناوشات، فهي غدَت ثكنة واقعة بين نيران العثمانيّين والفرنسيّين، بعد أن كانت تبدو وادعة وسعيدة إلى حدّ ما، الأمر الذي يُذكّر بأثينا التي تحوّلت ثكنة عسكرية مسكونة بالموت، إنّها “إسبرطة الأفريقية”، لا اليونانية، كما ترِد على لسان الصحافيّ ديبون. وحتّى بعد توقيع العثمانيّين على وثيقة استسلام ورحيل، فإنّ الفرنسيّين لم يحترموا العهد الذي وقّعوا عليه، وكان يتضمّن عدم الاعتداء على حياة الناس وأموالهم ودور عبادتهم، فقد فعل الفرنسيّون نقيض ذلك، ومارسوا كلّ المحرّمات من نهب وقتل وتدمير.
القتل انتقاماً
الفِعل البارز، الوحيد، الذي يقوم به السلّاوي، هو قتل “المِزوار” كبير القوّادين في شارع “المبغى”، وهو يقتله انتقاماً لحبيبته دُوجة أساساً، دُوجة التي اضطرّت، لفترة من الوقت ولظروف قاهرة، أن تعمل كـ”مومس”، وتعرّضت للاضطهاد أيضًا من قبل المِزوار، فرأى السلّاوي ضرورة التخلّص منه. وما عدا ذلك لا نجد له حضوراً سوى في تنقُّله ورحلاته بحثاً عن “الأمير الشابّ” الذي قيل إنّه سيقود ثورة ضد الاحتلال الفرنسيّ، لكنّنا لا نراه روائيّاً في أيّ مشهد أو حادث، بل نسمع عنه. وكذلك الأمر في ما يتعلق بشخصيّة ابن ميّار، ففي ما عدا كتابته للعرائض إلى الملك الفرنسيّ لوقف الأعمال الهمجيّة للعسكر، فإنّ حضوره في الرواية يكاد يكون “كاريكاتوريًّا”. لكنّنا أمام شخصيات أبدع المؤلّف أيضًا في بنائها، بعناصر ومكوّنات تجعل من كلّ منها كائنًا بشريّا من لحم ودم ومشاعر وأحلام وآلام وعذابات.
يُنوّع الروائيّ الشابّ (مواليد الجلفة 1985) في أساليب السرد، مستخدماً لغة التقرير حيناً، والكثير من الحوارات بين الشخوص تارة، ولا تغيب عن العمل لغة التأمّلات في الواقع اليوميّ والحياة والوجود، وخصوصًا لدى شخصيّة مثل الصحافيّ ديبون، وغيره. كما تظهر في الرواية صورة من صور كتابة اليوميّات والتقارير الصحافيّة واللوحات التي تضمّ ما يشبه بورتريهات للأشخاص، بعضُها ذو طابع تراجيديّ، والآخر هَزْليّ.
أما بخصوص نهاية الرواية فهي صادمة، بمفاجأة باهتة. فنسبة إلى رواية صاخبة بالحوادث والدم والنار، ومليئة بالتأمّلات والحكايات الصغيرة الفرعيّة، والحركة العنيفة التي شهدتْها، يُفاجأ القارئ بانتهائها مع رحيل السلّاوي بحثًا عن الأمير الشابّ، واعدًا حبيبته دُوجة بالعودة لكي يتزوّجا، ما يعني أن الروائيّ أراد التخلّص من هذا الموقف، ثمّ الانتهاء بشخص ابن ميّار منفيّاً وزوجته، بقرار من كافيار، إلى إسطنبول، والغريب أنه وزوجتَه، ورغم وطنيّتهما، فقد كانا يبدُوان سعيدَين بهذا النفي إلى “مدينة جميلة كإسطنبول”. هي نهاية غير مُقنعة إذن، رغم أن الرواية تجذب القارئ منذ البداية بعوالمها الواقعية والمتخيّلة.
*المصدر: اندبندنت