عمار المأمون: مسرحية “تحت سماء منخفضة”… الرغبة بالحكاية وتهديد هوية المؤلف

0

لا أعلم كيف أبدأ المقدمة، بالزمن الماضي أو الحاضر، أي، هل أكتب: “كان لي صديق …”، أو ” لدي صديق”. سأستخدم صيغة الماضي الناقص “كان”، لقابليتها للاستمرار، أي، ما كان حدث ماض، يحوي، ضمن شروط ما، احتمالات الاستمرار إلى الآن. لكن أي “آن”، لحظة الكتابة، أم لحظة موتي؟ خصوصاً أن صيغة الملكية (لديّ)، تفترض أني جزء من هذه الحكاية وأن بطلها جزء مني، يدخل في تكويني الذي لم يصبح بعد ماضياً، أم هل أصبح كذلك؟

كان لي صديق لقبه أبو الياس، هو حقيقة ليس صديقي، بل صديق صديقي، واحد من الأشخاص الذين من السهل نسيانهم، إذ لا يجمع بيننا سوى اللقاء السنوي بينه وبين صديقي، فأطباعنا مختلفة، ولا يوجد ما يجمعها. بعد بدء الثورة في سوريا، وجد أبو الياس نفسه مُضطراً للالتحاق بالخدمة العسكرية، لحسن حظه، لم يولد في العاصمة، ذهب إلى مدينته الشرقية لعدة أشهر، ثم فُرز إلى دمشق حيث يسكن، مصادفةٌ تكلف عادة ملايين الليرات السورية، لكن الحظ لعب دوره هنا.

التقيت أبا الياس آخر مرة مع صديقي في “قهوة” شعبية، أذكر أني كنت أكره فيه عادةً يمارسها دوماً: يمسك بي من رقبتي ويعص أصابعه، ويسألني إن كنت قوياً أو “ذا عص ماكن”، الجواب واضح لأن صراخي كان يعلو. لا أدري لم كان يفعل ذلك. هل يفترض أن نحولي يعني أني لا أمتلك أي قوة. نضحك، ونعود لشرب الشاي الرخيص.

يومها، أو يوم اللقاء الأخير، قام بذات الشيء، لكنه ودّعنا نوعاً ما، قام بدفع الحساب وعانقنا، علماً أن هذه المرة كانت الرابعة التي ألتقيه فيها، وقال لنا إنه مسافر لـ “يزور أهله”، ربما هي علامة سرية أنه سينشق، لم يخطر هذا في بالي حينها أبداً، لكن القصف على مدينته اشتدّ. بعد حوالي عام تقريباً، خطر أبو الياس في بالي، سألت صديقي عنه، قال لا أخبار، بسذاجة بحثت عن اسمه على جوجل، في أقل من ثانية ظهر فيديو له، مُكفّناً مع صيحات احتفاء بالشهيد أبو الياس، أخبرت صديقي بذلك فوراً، وأغلقت الخط.

بقيت صورة أبو الياس عالقة في رأسي، ما زلت مصدوماً من شكل العزاء والنحيب الرقمي الذي ترافق مع الفيديو الخاص به. لاحقاً، بعد عدة سنوات من مغادرتي لسوريا، التقيت بصديق في برلين، وظفت نبرتي المصطنعة وأخبرته الحكاية السابقة، وأني سأنجز بحثاً عن “النحيب الرقمي في ظل الثورة السورية”، وناقشت معه تحول شكل الحداد بسبب منع الناس من الاجتماع لبكاء موتاهم، واستبدل ذلك بفيديوهات ممنتجة، يكون العزاء فيها على شكل تعليقات.

لم أذكر اسم أبو الياس إلا نهاية، لأضيف للحكاية أثراً درامياً، كون لا أحد من الحاضرين يعرفه، ما إن قلت أبو الياس، حتى نطق صديقي المقيم في برلين اسمه الحقيقي، وقال: “أنا من صوّرت هذا الفيديو”.

متى وأين نسرد الحكاية؟

تحول أبو الياس إلى مقدمة مقال عن مسرحية، قمت باختزال حكايته إلى ما أعرفه أنا وردود أفعالي، وخلقت مفارقة نتيجة سلسلة من المصادفات البحتة، لكن هل يمكن حقاً أن “أسرد” قصة أبو الياس بأكملها؟ أي هل يمكن أن يظهر كتاب بعنوان “قصة أبو الياس” أو فيلم ربما، أو حتى مسرحية؟ الأهم، متى أحكي قصة أبو الياس/ بعد انتهاء الحرب أو الآن وهي ما زالت قائمة؟ وعن أي حرب أتحدث بدقة؟ بل هل تصلح كلمة حرب؟ الأهم، أين أنا من هذه الحكاية؟ مؤلف؟ شاهد؟ كاتب مقالات؟

الأسئلة السابقة يطرحها المسرحي السوري وائل عليّ في عرض “تحت سماء منخفضة” الذي “يحاول” أن يحكي لنا قصة الفنان والمصور الوثائقي السوري في المهجر، جمال محمد. لا نعلم إن كان جمال شخصية حقيقية أم لا، وهنا يظهر السؤال الذي يطرحه المؤديان ناندا محمد وشريف أندورا، على الخشبة، إذ يقتبسان على لسان جمال التالي: “يجب على أي قصة كي تكون مناسبة لأن تسرد، أن تقاوم، أن تقاوم الاختصار!”.

يهدد هذا السؤال أي عمل فني أو سردي، ليس فقط ضمن الشكل المسرحي، أي كيف يمكن لنا أن نحكي قصة كاملة، ناهيك عن أن تكون قصة شخص، سوري، رحل إلى فرنسا، يعمل في السينما، لا يمكن له العودة إلى بلاده ويحاول الاستمرار في العمل، فهل يطلب من أحد أن يصور له، أم يخاطر هو بنفسه؟

الأهم، وهو السؤال المطروح على الخشبة: متى نسرد الحكاية، أثناء أو بعد انتهاء الحرب؟ وما هو موقف الرواة أنفسهم، ناندا ومحمد، أين الخط بين المخيلة والحقيقة حين ننطق حكاية ما، وما هي العناصر الكافية للإحاطة بها: صور، رسائل، ذكريات شخصية، ذاكرة الفنان؟

لا يوجد جواب على هذه الأسئلة، فأي إجابة ستساهم في تأطير الحكاية أي اختزالها، والأهم، ستفترض نقطة بداية، ثُبتت في العرض بكونها لحظة “لقاء” جمال محمد مع كتاب “على طرقات سوريا، بعد تسع سنوات من الوصاية”، الصادر عام 1928، أي قبل مئة عام من تاريخ إنجاز العرض، وللمصادفة، يحكي الكتاب عن بداية تأسيس “الدولة السورية” وكيف رُسمت حدودها.

هذا التأطير وافتراض نقطة البداية والوعي التام بأننا في مسرحية يفتح المجال للارتجال، لا بالمعنى المرتبط بالخطأ، أي أن يتدارك الممثل نفسه أو أن يخرج عن النص، بل نشير إلى تقنية الارتجال المرتبطة بالتأليف المسرحي، وهي أن نحدد نقطة بداية لنترك الحكاية تتدفق بناء على المكونات الموجودة أمامنا: ممثلون، ذكريات، وثائق، مخيلة، وعادة ما يتم تحديد نقطة النهاية مسبقاً، أي نرتجل الطريق بين نقطتين، وهذا ما نراه في العرض، رحلةُ ارتجال وبحث في المعنى لرصد الحكاية ومحاولة الإحاطة بها، المثير للاهتمام أن نقطة النهاية هي نهاية العرض، لا نهاية الحكاية، إذ لم تتم الإجابة عن سؤال: متى نسرد الحكايات، أثناء أو بعد الحرب؟

إشكالية تعدّد المؤلفين

يُخبرنا كل من ناندا وشريف أن جمال توقف عن العمل في القطاع الفني، وقرر أن يتحول إلى “غرض” يوظّفه العاملون في الفنون، خصوصاً أنه سوري ويشكل مادة دسمة للتوليف الفني، وبعيداً عن سياسات استعراض “اللاجئين” و”المهجرين”، يطرح العرض سؤالاً شعرياً: من هو مؤلف المسرحية؟ ولا نقصد وائل عليّ المكتوب اسمه على الأفيش، بل من هو “المؤلف”، خصوصاً أننا نتعامل فرضياً مع شخص حيّ، واع بأن قصته “عنصر” فني يوظف على الخشبة.

هل ارتجالات ناندا وشريف تكسبهم صفة المؤلف؟ أم وائل عليّ الذي وزّع عناصر القصة وأدوات سردها على الورق، وجعل من ناندا وشريف يؤديان دوراً، هو من يرتجل؟ خصوصاً أن الجميع يؤدي حكاية جمال، لا جمال نفسه من يقوم بذلك، فلا دور له إلا في اختيار “نقطة البداية” المتمثلة بكتاب استشراقي واستعماري عن تأسيس سوريا.

يتحول سؤال المؤلف إلى سؤال سياسي، أي من يمتلك حق رسم حدود الحكاية، واختيار ما يظهر من أحداثها؟ والأهم، كيف يتم توزيع أجزاء الحكاية على كل واحدة من الشخصيات، خصوصاً أن “المؤلف” يظهر في المسرحية التي تتناول حياته نفسها ونسمع صوته فقط؟ هذه الحدود السياسية والجمالية التي تفترضها المسرحية، ستشكل “أنا” جمال، وكيف سنعرفه، وهنا يظهر سؤال آخر على لسان ناندا: “كيف سأصف لابني الذي سيأتي، سوريا التي أتيت منها؟”.

بالرغم من أن السؤال قد يبدو ساذجاً، لكنه سياسي: من يمتلك سلطة تأليف حكاية سوريا وكيفية سردها، خصوصاً أن الحرب لم تنته؟ وما دور الفنان هنا وكيف عليه أن يقاوم الاختصار، تلك اللعنة المرتبطة بالعمل الفني نفسه كوسيط؟ هل يلعب دور الـ “Bricoleur”، أي يستفيد من مهارته وما هو حوله لصنع الحكاية؟ أم يلعب دور الـ appropriator، ذاك الذي يقتبس حكايات الآخرين ليصنع حكايته؟ أيضاً لا جواب.

الرغبة بالحكاية

يطرح العرض أسئلة عن النشاط الفني وعلاقته مع التاريخ والذاكرة الشخصية، يتلاعب بالمكونات والترتيب السردي، ويحاول “المقاومة ضد الاختصار” وسياسات النشاط الفني. لكن يبقى هناك هالة محيطة بكل ما هو موجود، سواء ممثلين أو أغراض، شخصيات تاريخية أو حيّة، هذه الهالة تشكّلها “الرغبة بالحكاية”، تلك التي يحاول “الجميع” إرضاءها، إذ نسمع في العرض عن جَدّة، بسبب إصرارها على سرد “الحكايات”، قام أحفادها بصياغة كوتا: يحق لها أن تسرد لهم ثلاث حكايات فقط في النهار الواحد.

حكايات الجدة تبدأ كنكتة أو نادرة مضحكة، وتنتهي بتراجيديا، هذا الاختزال أشبه بمرآة تعكس حكاياتنا نحن، وحكاية أبو الياس نفسه، وحكاية جمال محمد، لكن ما يجمعها جميعاً، هو الرغبة بالحكاية، ذاك الأمل بأن هناك وسيطاً ما قادراً على قول “كل شيء”، وسيط فيه خلاصنا.

الأهم، تربط الرغبة بالحكاية بالذات نفسها وتكوينها، وقدرتها على تخزين الحكايات ضمن متاهات الذاكرة، ثم استعادتها وإعادة ترتيبها، هذه الاستعادة نفسها وإدراك العجز عن “الاكتمال” هي ما يحرك الرغبة بالحكاية، المحكومة بيقين يهددنا دوماً، تختزله فرضيّة مفادها: “هناك دوماً ما لم يُقَلْ”.

ملاحظة: العرض أُعيدَ أداؤه مؤخراً، وتم إخراج نسخة خاصة بالمشاهدة المنزلية.

(رصيف 22)