– أأنت الذي رأى كل شيء؟
– نعم أنا الذي رأيت وسأرى كل شيء..
– ومن أنت؟
– أنا الموقع أسفله جلجامش ملك أوروك العظيم!
هكذا تبدأ أحداث رواية ربيعة جلطي “جلجامش والراقصة” (ضفاف والاختلاف، 2021)، ثم تذهب نحو نقض وانقلاب على ملحمة جلجامش، أقدم نص بشري مكتوب اكتشفه علماء الآثار الأركيولوجيون يصل إلينا عبر الزمن بعد آلاف السنين. في الرواية أحداث كثيرة وشخصيات ورموز وقراءة جديدة للواقع ونقده على ضوء قراءة انقلابية للتاريخ من منطق الرواية، من منطق المتخيل. البطل المحوري هو جلجامش أو يوسف الذي رفض عرض عشتار بالزواج منه، وردها خائبة على مرأى من جميع سكان مدينة أوروك، الأمر الذي أثار غضب عشتار فأرسلت الثور السماوي للقضاء على جلجامش وصديقه أنكيدو، لكنهما يتغلبان عليه ويقتلانه، تطلب عشتار من الآلهة الانتقام لمقتل المخلوق المقدس وتقرر الآلهة قتل أنكيدو صديق جلجامش، يتملك جلجامش حزن عميق ويقرر الذهاب في سفر للبحث عن نبتة الخلود، وبعد أن يجدها ويتناولها (عكس ما تذهب إليه الملحمة) ثم يبدأ الانتقال في مشارق الأرض ومغاربها عبر الأزمنة والعصور بحثًا عن عشتار.
تذهب ربيعة جلطي نحو نقض وانقلاب على ملحمة جلجامش، أقدم نص بشري مكتوب اكتشفه علماء الآثار
يجمع بين آدم وجلجامش الضياع الوجودي وفلسفة البحث عن الكمال، يقول جلجامش “آدم يشبهني في وحدته. أشبهه في ضياعي. آدم أضاع جنته الوهمية وهو الآن في زمن كالعدم، كما أضعتُ أوروك وعشتار وأنا الآن في زمن لا نهاية له” (ص 39).
وكما حدث عندما خلق الإله آدم و سخّر له جنة عدن يأكل منها كيفما يشاء ويعيش على خيراتها ويستغل كل كنوزها، شعر جلجامش مع مرور الزمن بالضيق والنقص واللامعنى يسيطر على حياته، إلى غاية خلق حواء وبذلك اكتمل نصفه الثاني وشعر بالكمال لأول مرة وأضحت لحياته معنى، كذلك جلجامش فبعد أن أضاع عشتار “جنته” وأكل نبتة الخلود ليعيش في سرمدية زمنية لا نهاية لها، والانتقال بين البلدان والعصور والحضارات، شعر إثر ذلك بالنقصان وغياب معنى لحياته التي لا تنتهي، إلى نهاية الرواية بعد أن تسكن عشتار أجساد نساء كثيرات تظهر أخيرًا عشتار وبذلك تكتمل عملية اتحاد الذكر والأنثى مرة أخرى.
ملحمة جلجامش والانقلاب الجندري
في كتاب “اللغة المنسية“، يقول إريك فروم بأن قصة جلجامش تمثل لحظة انتقال البشرية من النظام الأمومي إلى النظام الأبوي، فبعد أن كانت الآلهة إناثًا كعشتار مثلًا حيث تمثل الآلهة الإناث: الموسيقى والحب والجنس والفنون، انتقلت السلطة إلى الأب الذكر وتم تحريم هاته الفنون، وتم قمع الصفات الأنثوية وكل ما يرمز لها، وهذا ما نجده في الرواية حيث إن جلجامش يوسف يعيش حياة مثالية في مدينة ولهانة التي وصل إليها بعد أن سافر في بلدان كثيرة على كوكب الأرض، ولهانة تحمل كثيرًا من علامات تحيل على مدينة وهران على البحر الأبيض المتوسط وهي مدينة الروائية ربيعة جلطي نفسها، هناك يتمتع جلجامش بكل مقومات الحياة السعيدة من الجمال والمال وحب الناس والشهرة.. لكنه لا يرتاح للاستقرار في مكان وهو يدري أن الزمن لانهائي بالنسبة له، ويحس بالقلق وغياب المعنى والضياع ويتضح في قوله: “إن عشتار توازني الداخلي في أرجوحة الزمن التي لا تهدأ” (ص 321)، وفي نهاية الرواية نرى عودة عشتار وجلجامش لبعضهما البعض وكأن الروائية ربيعة جلطي تقول لنا بأن الرجل أو المرأة على حد سواء لن يجدا سعادتهما إلا في الاتحاد بالآخر دون قمع ولا سيطرة طرف على الآخر، وهذا هو حل الأزمة ما بين الحركة النسوية والمجتمعات الذكورية اليوم.
إعادة كتابة التاريخ واستعمال الرموز الدينية
تكمن نقاط قوة هاته الرواية حسب رأيي في أن ربيعة جلطي استعملت ملحمة جلجامش لإعادة كتابة التاريخ بطريقة مغايرة ومختلفة، أي بطريقة روائية، حيث أن جلجامش البطل الروائي نجده يأكل نبتة الخلود، عوض أن يضيعها بسبب الأفعى كما في النص الأسطوري، وأيضًا في استخدام الرموز والإيحاءات الدينية: الحكيم أوتانبيشتيم “النبي نوح” الذي عرفته الأديان السماوية- وآدم صديق جلجامش – هابيل وأخوه التوأم – قصة النبي يوسف والذئب – شخصية طاووس والغواية التي تذكرنا بزليخة زوجة العزيز.
وعبر هذه الرحلات بإيحاءاتها تحيل الرواية كذلك على القضايا المعاصرة الأكثر تهديدًا لوجود الإنسان وعلى الخطر الذي يحدق بالكوكب الذي نعيش عليه جراء أسلحة الدمار الشامل والحروب والأمراض والأوبئة والجوائح، والتغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض واختناقها..
جاء كل هذا بأسلوب سردي ووصفي مميز وبلغة ربيعة الشعرية التي فيها كثير من الاقتصاد والنحت البديع كل ذلك منسجمًا مع ذكرها للموسيقيين والفنانين وتاريخ المدن والشعوب وبعض الأديان والمعتقدات، راسمة بذلك لوحة فنية مميزة ومثيرة للقراءة.
*الترا صوت