لعلّ أبرز ما يميّز قصيدة الشاعر العراقي وليد هرمز (من مواليد 1951) تلك اللغة الدراميّة الشجيّة، الهادئة والحميمة في الآنِ معًا؛ ثمّة نَفَس شِعريّ غنائي وملحمي مديد، يبدأ ولا ينتهي. قصائد حنينٍ ينشدها الشاعر في مغتربه عن الحبّ والوطن والحياة بكل مباهجها، فيما اللغة تأتي كالماء العذب المتدفّق من سفح جبلٍ، يرجو الناظر لو يتأمّلها دائمًا وأبدًا، ودونما ملل. وكما “العصافير تدافع عن حقلها بالغناء”، على حدّ تعبير روجيه مونييه، فإنّ الشاعر أيضًا يتمسّك بوطنه ويدافع عنه، من خلال الكتابة على الأقلّ.
في كتابهِ الشِّعريّ الأحدث “مهبُّ الرمية الغامضة (نرد اليقين)”، الصادر أخيرًا عن دار الزمان في دمشق 2020، يكتبُ الشاعر وليد هرمز أنشودة الحياة الحميمة؛ “الحبّ”، “الوطن”، “المنفى”.. عناوينٌ رئيسة لهذا النشيد، حيثُ التسلسل التدريجي، المتناغم والمتناوب والسلس، يُضفي نفحةً شجيّة وآسرة على أجواء الكتاب.
يقول: “ثمَّتَ فسحةٌ بيضاء على الحائطِ،
ثمتَ قبضةٌ فرشاةٌ،
ثمتَ صِباغٌ طازجة في صحن الفاكهة.
وثمَّتَ أنتِ، تغطينَ
تحت ملاءةٍ حُلُمٍ”.
ما نجده في المقطع السابق من شغفٍ بتقنيّات قصيدة النثر، لا سيما تقنيّة التكرار، ينسحب على معظم صفحات الكتاب، وذلك بتكرار مفردة أو أكثر في بداية كل سطر، ما يجعل من النص قطعة فنيّة موسيقية ذات نبرة خاصة ومتفردة.
ثوب القصيدة
قصيدة وليد هرمز، المقيم في السويد، ذات بُعدين جليّين، ثمّة الصوت والصدى، وما الشاعر سوى مايسترو لحزمة من الأصوات الهارمونية، وكأنّه- هنا- يصغي أكثر من كونه الصوت أو حتى الصدى: “أَلْبسيها ثوبَ القصيدة:
في الشتاءِ
ثوبًا مطرَّزًا بورد التفْعيلةِ.
وفي الصيفِ،
ثوبًا من نَثْرِ الفَراشاتِ”،
يتابع: “لها سِيْرَتانِ،
وقلبان.
قلبٌ هُنا،
وقلبٌ هُناك.
ولها ما ستتلوه غدًا عن عاشقين لم يُخصِّباها إلاَّ من هذيانِ القصيدة.
ولها نشيدُها المحتدم بشبحهِ”.
تداخل الأصوات وبشكلٍ خاطف وخفيّ، ومن ثمّ الانتقال بمنتهى السلاسة من شطرٍ لآخر، يكاد أن يكون جليًّا لا في المقطع السابق فحسب، بل في جُلّ قصائد الكتاب. قصائدٌ مشحونةٌ بمزيدٍ من العاطفة والرغبة الشديدة في حلمٍ أبديّ.
قلق أوّل الخليقةِ
كتاب “مهبُّ الرمية الغامضة (نرد اليقين)”، والذي جاء في مائة واثنتي عشرة صفحة من القطع المتوسط، هو الإصدار الشعري السادس للشاعر وليد هرمز، إذ سُبِقَ له أنْ أصدر الكتب الشِعريّة التالية: “نواقيس الكلدان (2007)”، “سالميتي مدائح الزيت (2009)”، “رُباخ (2010)”، “فران الندم (2012)”، “جسدان في وضوح أخضر (2015)”. بالإضافة إلى عمل روائي وحيد بعنوان “جروح غوتنبرغ الرقيقة (2019)”.
في هذا الكتاب تتخفّف القصيدة من ثقل البلاغة وخشونتها، لتعود باللغة إلى منبتها الأوّل وبراءتها.. إلى الطبيعة؛ “إبريق الشاي الأخضر”، “شمعة”، “الصباح”، “دمع العصافير”، “خزامى”، “السنديان”، ومفردات أخرى عديدة تخصّ الطبيعة وحدها، نجدها بين جنبات القصائد.
يقول: ” قلقٌ منذُ أول الخليقةِ.
…
ربما
الجنةُ هذيانُ الآخرة.
النارُ أنينُ النشأةِ
لا سماءَ تحتها،
لا فوْقها.
في المَطْهرِ يسبحُ القلقُ”.
قصائدٌ تقودُ “القارئ” إلى الحيّز الحميم من الحياة، حيثُ الأبوابُ مشرّعة على الحريّة ومحاكاة الذات والآخر، جنبًا إلى جنب مع الالتقاط اللامرئي للمهمّش من التفاصيل اليوميّة، حتى تلك المتناهية في الصغر.
*العربي الجديد