رحل قبل أيام صاحب أبرز مسلسل تلفزيوني للأطفال “افتح يا سمسم”، وصاحب أبرز أفلام روائية عراقية، وصاحب أبرز الأفلام الوثائقية والبرامج السياسية الوثائقية التي كان يقدمها عبر الشاشات العراقية، وأشهرها برنامج “الملف”، الذي كشف فيه زيف العدوان الأميركي على العراق عام 1990، فيما عرف بـ”عاصفة الصحراء”.. رحل الفنان والأديب والإعلامي فيصل الياسري عن عمر قارب التسعين عامًا، بعد رحلة مريرة مع المرض، وبعد رحلة عمر مع الإبداع الذي أوصله إلى مكانة مرموقة في العراق وخارجه.. رحل بهدوء بين أهله وعائلته المقيمة في عمان في الأردن.
ولد الفنان فيصل عبد الله الياسري عام 1933 من أصول نجفية في قضاء المشخاب. عمل في الصحافة منذ عام 1948، وأصدر مجموعة قصصية بعنوان “في الطريق”، كما أصدر رواية “كانت عذراء” عام 1952. لكن الأدب لم يكن كافيًا لتنفيذ ما يدور في رأسه، فاتجه إلى السينما، وتخرج من فيينا، وحصل على درجة امتياز في فن الإخراج والإعداد التلفزيونيين، ليعمل منذ عام 1958 مخرجًا في تلفزيون بغداد، كما عمل في الفترة (1959 ـ 1962) مخرجًا في تلفزيون ألمانيا الديمقراطية، وساهم في تأسيس تلفزيون بغداد الثقافي، وكان مديره بين عامي 1994 و1995. أخرج عشرة أفلام روائية من بينها “الرأس”، و”النهر”، و”القناص”، و”بابل حبيبتي”. كما أخرج عددًا من الأفلام التسجيلية، فيما أخرج للتلفزيون “دنانير من ذهب”، و”اللغة العربية”، و”مرايا”، و”الدفتر الأزرق”. وله في الدول العربية أفلام ونتاجات عديدة، من بينها المسلسل التعليمي “افتح يا سمسم”، والمسلسل التثقيفي “سلامتك”، والمسلسل السوري “حمام الهنا”، والأفلام السورية “عودة حميدو”، و”غراميات خاصة”، و”عشاق على الطريق”، و”الزواج على الطريقة المحلية”، ومسلسل “مرايا”.
يقول المخرج العراقي، عزام صالح، إن فيصل الياسري يعد واحدًا من أهم المخرجين العراقيين الذي ثابروا وقدموا ما هو متميز في السينما والدراما التلفزيونية. ويضيف أنه صاحب الورش لاستنهاض الشباب الذين تدربوا على يده، وقد نجح في تشكيل جيل فني ناضج في جميع العمليات الفنية.. ويؤكد أن الياسري يعد أبًا روحيًا لكثيرين عملوا معه في البرامج والسينما والدراما التلفزيونية، ولم يبخل هو في نقل ثقافة ما درسه إلى محيطه الفني الثري في سورية والعراق، فقد كان مخرجًا متميزًا، وكاتب سيناريو، ومترجمًا. ويعتقد صالح أن كل هذا العطاء يُضاف إلى ما كان يمتلكه الياسري من كاريزما جعلته شخصية فنية لها سيادة في الوسط الفني العراقي والعربي.
ويقول الباحث والمؤرخ والأديب، خزعل الماجدي، عن الراحل إنه موهبة استثنائية في عالمنا الفني والثقافي. ويشير إلى أنه في بداية حياته جمع بين الصحافة والأدب (القصة القصيرة والرواية) ثم نبغ في الإخراج التلفزيوني والإعداد التلفزيوني، ثم السينما الروائية والتسجيلية، ثم الترجمة وإدارة القنوات الفضائية. ويعده الماجدي موهبة كبيرة استطاعت أن تضعه في أفضل المواقع في عالمنا العربي، فمن ينسى مسلسله الشهير للأطفال “افتح يا سمسم”، وبرامجه التلفزيونية المؤثرة؟ ويوضح أنه نشأ في عائلة متعلمة ومثقفة، وتأثر بمناطق الريف والأصدقاء والجلسات والروايات والأساطير في المنطقة التي عاش فيها قرب منطقة الكوفة والحيرة وقصري الخورنق والسدير، بحيث كان انتماؤه لبلاده وتراثه قويًا، وكان يرى أن الإنسان لا يمكن أن يكون مهمًا وكبيرًا إلا في وطنه، مستدركًا أنه يمكن تحقيق الأحلام خارج الوطن، لكن العودة إليه ضرورة. وذكر أن الياسري استطاع أن يكون نموذجًا للفنان العراقي القابل للتعامل المرن والإيجابي مع الأوساط الثقافية العربية والعالمية، وكلّ هذا حصل في زمن مبكر، وكان قدوة في هذا المجال.
من جهته، يرى السيناريست والأديب، شوقي كريم حسن، أن الياسري يشكل ظاهرة فنية لم تنجب الحياة الفنية والثقافية في عموم البلدان العربية إلا القليل منها، فهو شخصية طموحة فاعلة اتسمت بقواعد التغيير وخلق ثقافة إنسانية رفيعة. وذكر أنه قرر تعلم السينما وفق قواعدها، فاتجه صوب المصادر السينمائية، وتخصص بالدقيق من صناعتها التي كانت تتوافر على تقنيات لم تكن موجودة في العراق ومعظم البلدان العربية. ويرى حسن أن المدهش في الأمر حقًا أنه عاش وسط احتدامات سياسية كبيرة أهمها الصراعات بين القوى والأحزاب، لكن الياسري ظل متمسكًا باستقلاله، وعدم قناعاته بالانتماءات الأيديولوجية التي تريد من المثقف والفنان أن يكون مطية مطيعة لأفكارها توجهه كيفما ترغب وتريد. وبحسب حسن، فإن الياسري تأثر بحرفيات الصناعة الصورية، ولهذا نراه سريع التنقل من كاميرات السينما إلى كاميرات التلفزيون، خاصة في تجربته المهمة في سورية، وإخراجه أهم الكوميديات الناقدة. وعندما كان يشعر بالحنين إلى الكتابة يروح مهرولًا إليها، محاولًا تقديم ما يفيد الناس، ويسهم في وعيهم العام. ويؤكد حسن أن تجربة الياسري نجحت بشكل جعل محطات التلفاز تنتبه لهذا التغيير. أما عن السينما فيقول حسن إن الأمر يختلف، حيث ظل الياسري وفيًا للمشهد الحكائي، متأثرًا بذلك بالسينما الألمانية، والمخرج المصري صلاح أبو سيف.
ويقول الناقد والفنان والأكاديمي، الدكتور حسين علي هارف: رحل من أوعز لـ(سمسم) باسم الأطفال أن يفتح أبوابه لهم، ليدخلوا عوالم الفرح ومدن المعرفة، رحل من كانت له بصمة، بل بصمات في السينما، وفي الدراما، وفي المسرح، والتلفزيون، والإعلام. ويشير إلى أنه كان موسوعيًا في كل عمله، فقد أسهم إضافة إلى عمله كمخرج ومعدّ برامج في تأسيس مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك التي قدمت للطفولة العربية أفضل برامجها التربوية التعليمية “افتح يا سمسم” بأجزائه الثلاثة و”سلامتك”. وكان الياسري فنانًا مبدعًا معطاءً فضلًا عن إخراج أول فيلم أنيميشن؛ “الأميرة والنهر”. ويذكر أنه كان حتى أشهر ماضية يفرح بعمل الشباب، وكان يطلعنا على جوانب كثيرة مما احتفظت به حاسبته من ذكريات وصور ووثائق، ويحكي بفرح وفخر عن تاريخه الفني.
ضفة ثالثة