في كتابه “الصحافي في أدب نجيب محفوظ” (العربي للنشر)، اعتمد الباحث محمد حسام الدين إسماعيل، على قراءته الشخصية لروايات ومجموعات القصص القصيرة لنجيب محفوظ، في طبعتي “مكتبة مصر”، و”دار الشروق”، فضلاً عن عشرات المراجع العربية والأجنبية، سواء كانت صلتها بموضوع الكتاب مباشِرة أو غير مباشرة. وقد سعى إلى تقديم صورة بانورامية عن أحوال مصر السياسية والثقافية والاقتصادية والإعلامية، على مدى نحو قرن من الزمان. ومن تلك المراجع، “العالم الروائي عند نجيب محفوظ” لإبراهيم فتحي، و”الهزيمة كان اسمها فاطمة” لإحسان عبد القدوس، و”نجيب محفوظ يتذكر” لجمال الغيطاني، و”تحليل الخطاب الروائي” لسعيد يقطين، و”الحركة السياسية في مصر” لطارق البشري، و”أقنعة الناصرية السبعة” للويس عوض. كما تنبغي الإشارة إلى قائمة المراجع التي شملت إضافة إلى الكتب، دراسات في دوريات محكمة وأطروحات ماجستير ودكتوراه، وصحف ومواقع إلكترونية، باللغتين العربية والإنجليزية.
يبدأ الكتاب الذي يتألف من 239 صفحة من القطع المتوسط، بتمهيد عنوانه،”لماذا ندرس صورة الصحافي في الأدب؟” وتليه أربعة فصول، تنطلق ثلاثة منها من تقسيم الإنتاج الروائي لنجيب محفوظ إلى ثلاث مراحل، واقعية، وفلسفية، ومتعددة التجارب، فيما يتناول الفصل الأخير “صورة الصحافي في القصص القصيرة لنجيب محفوظ وفي كتابه “أحلام فترة النقاهة” بجزئيه.
ومحتوى “أحلام فترة النقاهة”، هو في ظن المؤلف “أحلام نوم حقيقية، بسبب أن بنيتها تعتمد على المصادفات والانتقالات السريعة غير المنطقية، جمعها محفوظ، عبر مشواره الطويل، وإن لم ندر متى بدأ، وإن كان كتبها على الأرجح قبل محاولة اغتياله في 1994”. وعموماً فقد نشر محفوظ تلك “الأحلام” أولاً في مجلة “نصف الدنيا”، قبل أن يضم الجزء الأول منها أول كتاب يصدره عن “دار الشروق” في عام 2004. والجزء الثاني من هذا العمل نُشِر عن الدار نفسها في 2015 تحت عنوان “أحلام فترة النقاهة: الأحلام الأخيرة”.
دراسة بينية
يقول محمد حسام الدين إسماعيل، وهو يعمل أستاذاً للإعلام والدراسات الثقافية في كلية الإعلام – جامعة القاهرة، إن دافعه الأول لإنجاز هذا الكتاب، “هو عشقي للأدب”، فيما الدافع الثاني هو تأثره بأدب نجيب محفوظ، موضحاً أن الدراسة التي يضمها الكتاب تقدم صوراً للصحافة والصحافيين “أقرب إلى الواقعية وأعمق كثيراً مما يقدمه معظم الدراسات الأكاديمية الإعلامية، لأن الأدب نوع كتابي عنده من الحرية أكبر مما تتيحه تلك الدراسات بما لا يُقَارَن”.
في هذه الدراسة يبحث إسماعيل، بحسب ما جاء في التمهيد، عن النسق أو النظام في رؤية هذا الأديب للعالَم، وتحديداً في شخصية الصحافي أو الإعلامي. وهو يعتبر أن “رؤية العالم” هي مجموعة من الأفكار والمعتقدات والتطلعات والمشاعر التي تربط أعضاء جماعة إنسانية (جماعة تتضمن في معظم الحالات وجود طبقة اجتماعية) أو تضعهم في موقع التعارض مع مجموعات إنسانية أخرى. ويضيف أن هذا يعني أن “رؤية العالم”، هي تلك الأحلام والتطلعات الممكنة والمستقبلية والأفكار المثالية التي تحلم بتحقيقها مجموعة أفراد… إنها تلك الفلسفة التي تنظر بها طبقة اجتماعية إلى العالم والوجود والإنسان والقيم، وتكون مخالفة لرؤية طبقة اجتماعية أخرى” صـ 18.
وكان أحد دوفع المؤلف لإنجاز تلك الدراسة، كتاب “الصحافة والرواية من القرن الثامن عشر حتى نهاية القرن العشرين”، لأستاذ الإعلام في جامعة واشنطن دوغ أندرود، ويتضمن “دراسة كيفية متحررة من قيود الكتابة الأكاديمية الفاترة المتكلسة، تظهر ثقافة المؤلف الموسوعية وتقدم استبصارات رائعة حول ظاهرة الصحافي الذي تحول إلى روائي، ولعل أشهرهم في السياق المصري: إحسان عبد القدوس وصبري موسى وفتحي غانم”.
ويذهب إسماعيل إلى أن مفهوم الصحافي كما قدمه نجيب محفوظ، قد شارف على الانتهاء بانتهاء الصحافة الورقية وغلبة الإنتاج الإلكتروني متعدد الوسائط على الإنتاج الإعلامي في المستقبل، بل وإحلال الروبوت محل البشر في الإنتاج الصحافي، فضلاً عن الضغوط المتعلقة بالملكية والإنتاج، وعلى رأسها التحول إلى كتابة أكثر جمالاً وعمقاً ذات طابع شخصي أو ذاتي”.
علم اجتماع الأدب
ويلاحظ إسماعيل في هذا السياق أن علم اجتماع الأدب قدم خدمات جليلة للنقد الأدبي سواء من طريق بحوثه المختلفة في ثقافات الشعوب، قديمها وحديثها، فالنشاط الأدبي “لون من ألوان الممارسة الاجتماعية للإنسان، أو من طريق إسهامات علماء الاجتماع الذين اهتموا بدراسة الظواهر الثقافية، كونها مرآة لمعرفة أحوال الشعوب والأمم”.
ويرى المؤلف كذلك أنه لا يمكن فصل صورة الصحافي عن الخطاب الأدبي، وطبيعته التي تبحث عن الجوهر، ولا عن طبيعة المجتمع الذي أنتج هذا الصحافي، لذا فإن الدراسة التي أنزها “تحقق لذة اكتشاف جوهر هذه الصورة، لا سيما اكتشاف الجديد.
ويضيف أنه وفقاً لرؤيته، فإن النماذج الصحافية في أدب نجيب محفوظ لا تخبرنا فقط عن خواص زمنية بالمهنة وقت كتابة الرواية أو القصة، بل تتجاوز ذلك إلى الثابت عبر الزمن، ألا وهي الثقافة (بالمعنى الذي تقصده دراسات التحليل الثقافي) وهو ما جعل نقاد وباحثي أدب نجيب محفوظ يرون مثلاً أن بعض نماذج رواية “المرايا” (التي نشرت عام 1971 تعبر عن شخصيات شغلت حيزاً كبيراً من القرن العشرين) تعيش بيننا حتى الآن، على الرغم من رحيل من كتب عنهم الروائي، ثم رحيله هو، ومرور نصف قرن على كتابة الرواية، لأن هذه هي العناصر الثقافية شبه الثابتة التي رصدها نجيب محفوظ بعبقريته وموهبته، وهذه هي خصوصية الخطاب الأدبي الراقي”. فمثلاً يقول إسماعيل، “سوف يتكرر في حياة مصر الاجتماعية صنف من الصحافيين مثله مثل المجرمين الذين يفلتون بجرائمهم، كشخصية رؤوف علوان في اللص والكلاب”.
وهنا تتجلى أهمية امتلاك الروائي رؤية محددة للعالم، على حد تعبير لوسيان غولدمان، أحد أعمدة علم الاجتماع الأدبي… رؤية ثاقبة ترصد الثابت في الإنسان وفي الثقافة (آفة حارتنا النسيان)، وهي التي تجعل من نماذج نجيب محفوظ الروائية حية حتى الآن، “ومن دون الدخول في تعقيدات لفظية، فإن أدب نجيب محفوظ واقعي لدرجة أن واقعيته تلك تعد خاصية وظيفية لبنية العمل الأدبي”.
المرحلة الواقعية
ثمة صفات لمهنة الإعلام والصحافة، جعلت لها مثل هذه الأهمية في أدب نجيب محفوظ، منها (كما يقول المؤلف) إنها “مهنة ظاهرة للرأي العام أكثر من غيرها، ومؤثرة فيه للغاية، وهي مهنة يبدو فيها التناقض بين القول والفعل أوضح من غيرها”.
وفي الفصل الأول من الكتاب وعنوانه “الصحافي في روايات المرحلة الواقعية”/ “القاهرة الجديدة”، 1945، يبرز وصف الصحافة بأنها “مهنة الأبطال والأوغاد: الانتهازي العبثي الذي لا أخلاق له صاحب الولاء لذاته، الذي على استعداد تام لفبركة الموضوعات الصحافية وقلب الحقائق، وكثير من هذه النماذج تثري من الصحافة، ويعمل فيها الوفدي الذي يخاف أن يعبر عن رأيه، ويلتزم الخط الحزبي، وكذا يعمل فيها الاشتراكي صاحب القضية، فيطلب من والده الثري أن يساعده في تأسيس مجلة تدافع عن الفقراء، تلك المجلة التي يظن الوالد أنها ربما تكون مشروعاً تجارياً ناجحاً”.
وفي “خان الخليلي” 1946، يأتي ذكر الصحافة مرة واحدة فقط في حوار بين أحمد عاكف والمعلم نونو، حين قال له الأخير، إنه يستبعد أن يكون صحافياً لأنه “ابن ناس طيبين”، “ما يكشف عن بقية صورة مزرية كانت لدى العامة في مصر لمهنة الصحافي الذي كان يطلق عليه الجورنالجي”.
في “بين القصرين”، يصف نجيب محفوظ شخصية “السيد أحمد عبد الجواد”، هكذا، “لا يخلو حديثه من لمعات غير مقطوعة الصلة بالثقافة العامة التي اكتسبها، لا من التعليم حيث توقف فيه دون الابتدائية، ولكن من قراءة الصحف”. وفي “قصر الشوق” تظهر الصحافة في سياق الاستعداد لمأساة وفاة زوج عائشة، إبراهيم شوكت، وولديه محمد وعثمان، إذ بينما يمهد ياسين لكمال الخبر، يسمع الأخير الباعة تنادي على ملحق جريدة “المقطم” فيخبره ياسين بخبر مأسوي آخر هو وفاة الزعيم سعد زغلول. وبحسب المؤلف، فإن اختيار محفوظ لجريدة “المقطم” بالذات ليس مصادفة، فهي الصحيفة الموالية للاحتلال وحقيق بخبر مشؤوم مثل وفاة سعد زغلول أن يرتبط بصحيفة مشكوك في وطنيتها لا من صحيفة وطنية أو محايدة كـ “الأهرام” في ذلك الوقت. وفي “السكرية” تحضر الصحافة بقوة، عبر صحيفة “الفكر”، وهي صحيفة متخيلة ولكنها تحاكي مجلة “المجلة الجديدة” التي أصدرها سلامة موسى عام 1930، وشخصية عبد العزيز الأسيوطي رئيس التحرير، فيها بعض من ملامح سلامة موسى، أشهر داعية للمذهب الاشتراكي وللعلمانية في النصف الأول من القرن العشرين. وهي هنا مجلة متخصصة في الفكر والأدب والفلسفة، درج نجيب محفوظ على نشر مقالات فيها تشبه المقالات التي نشرها “كمال عبد الجواد” في مجلة “الفكر”. ومحفوظ سبق أن صرح بأن أجزاء كبيرة من حياته تتشابه مع شخصية كمال “عبد الجواد”. فيما تضمنت الرواية رأياً في الطغاة الذين كبتوا حرية الصحافة. وفيها أيضاً رؤية نجيب محفوظ التي كررها في “اللص والكلاب” بأن “المومسات أشرف من بعض الصحافيين”.
نماذج حية
وفي الخلاصة، فإن نجيب محفوظ يمثل الذات الفردية المبدعة، ويمثل في الوقت نفسه الوعي الجمعي والطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، وهو بقدرته الفنية استطاع إبداع هذه الرؤية جمالياً، وعلى حد تعبير محمود أمين العالم، فإن أدب نجيب محفوظ هو أرفع صورة متكاملة ديناميكية نابضة لأديب عربي معاصر، يمتزج فيها المفكر بالعالم بالشاعر بالمناضل امتزاجاً خلاقاً”.
ويتضح من فصول الكتاب ليبرالية ثورة 1919 التي رفعت شعار الدين لله والوطن للجميع، التي ستنعكس في ذات نجيب محفوظ وفي أدبه، ثم تمتد لتدعو الشعب المصري كي يتخلص من المحتل الأجنبي والمستغل المحلي. ثم يتضح اتجاه الروائي لتيار اليسار في حزب “الوفد” بعد التغيير الذي أصاب ذلك الحزب، يعقب ذلك اقتناعه بمبادئ ثورة يوليو (تموز)، واختلافه مع سياساتها، انكساره ضمن من انكسروا بعد يونيو 1967، وفرحه باستعادة الكرامة في 1973، ثم ما لبث أن رصد الآثار الفادحة لسياسات الانفتاح الاقتصادي خصوصاً على الطبقة الوسطى، وعلى الرغم من ذلك فقد أيد السلام المنفرد مع إسرائيل اقتناعاً بعدم جدوى الحرب، وهو يرى أن كل رئيس بعد يوليو 1952 له وعليه، وأنه لم يحجم عن أن يقول وينقد في كل أعماله، بل وبشكل مباشر في صفحات مذكراته التي أملاها على جمال الغيطاني ورجاء النقاش.
وفي تصوري (يقول المؤلف) فإن “نماذج شخصية الصحافي التي أبدعها نجيب محفوظ، لا سيما بعد “أولاد حارتنا” ما زالت تعيش بيننا ومؤثرة في صنع حاضرنا ومستقبلنا”.
*اندبندنت