علي سفر: يدفع ثمنها المثقفون.. مؤامرات ودسائس وتفخيخ مضامين في “الهيئة السورية للكتاب”

0

منذ تأسست “الهيئة العامة السورية للكتاب” في العام 2006، توالى على رئاستها عدد غير قليل من المدراء، لم تكن معايير اختيارهم تتبع شيئاً مختلفاً عن معايير ترشيح وتنصيب المدراء والوزراء في عموم مؤسسات الدولة.

بالطبع، وكما يحدث دائماً في أي إدارة عامة، ستنشأ شبكات مصالح للأفراد تتوافق مع بعضها أو تتصادم، وستندلع حروب تحت سقفها، تبقى مضبوطة وفق الإيقاع العام لمراكز القوى، قد يتم فيها استخدام أدوات وأسلحة غير متوقعة في حال اندلعت، أو حتى تفجرت بعض مناوشاتها.

وبالنسبة لمن يعرفون التكوين الخاص للعلاقات التي تخضع للسيطرة الأمنية، لا يمكن تفسير الحملة التي تفجرت فجأة ضد كتاب مسرحية “الغابات الأفضل والثعلب راينكه”، من تأليف مارتين بالتشايت وميشائيل بوغدانوف، الصادر في العام 2014 بترجمة للدكتور نبيل الحفار، إلا من زاوية رغبة أحد ما النيل من فريق عمل الهيئة في ذلك الوقت، والذي كان على رأسه الدكتور وضاح الخطيب، وكذلك وزيرة الثقافة الحالية لبانة مشوح، حينما كانت مكلفة بمنصبها الحالي ذاته!

بدأت القصة حيث نشرت بعض الحسابات على موقع فيس بوك، صوراً للصفحة 22 من مسرحية “الغابات الأفضل”، والتي تحتوي حواراً بين شخصياتها، يتضمن مفردات رأى المدونون أنها بذيئة، لا تراعي أن الكتاب موجه للطفل، المؤطر ضمن منشورات مديرية ثقافة الطفل، واعتبروا المعلقون أن عدم حذف هذا المقطع من الحوار ينم عن استخفاف شديد بأخلاق المجتمع، وطالبوا بمحاسبة المسؤولين عن هذا الخطأ!

الهيئة التي يرأسها في الوقت الحالي الدكتور د. نايف الياسين لم تتردد في الدفاع عن نفسها، فأصدرت بياناً نشرته على معرفاتها، اعتذرت فيه عما حصل، وأعلنت سحبها للكتاب من مراكز البيع!
وجاء في البيان أن “الهيئة تأسف لهذا الخطأ الذي يتحمل مسؤوليته بالدرجة الأولى مترجم الكتاب، الذي قضى جلّ مسيرته المهنية في العمل في ميدان الثقافة، وكان يفترض أن يعرف ما هو لائق وما هو غير لائق بالنسبة للقارئ العربي. كما يتحمل المسؤولية القرّاء المحكِّمون الذين كُلفوا بمراجعة الكتاب والتدقيق في محتواه، ومدير منشورات الطفل في الهيئة حينذاك لإجازة نشره”!
وأشارت الهيئة إلى “أنها تعمل وفق آليات أكثر صرامة للتدقيق في المحتوى الفكري والأخلاقي لما ينشر، ولا سيما المواد الموجهة للأطفال واليافعين الذين تبذل وزارة الثقافة جهوداً كبيرة لبناء فكرهم وتعزيز انتمائهم الوطني وغرس القيم النبيلة فيهم”!
تلقى جزء من الجمهور بيان الهيئة باستغراب شديد، وذلك بسبب سرعة توجهها إلى التنصل من أحد منتجاتها، والانصياع إلى نزعة تغالي في رسم صورة للأخلاق المجتمعية، غير موجودة في زمن الإنترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي، الأمر الذي تم تفسيره من قبل كثيرين على أنه نفاق وتزلف، تمارسه مؤسسة عامة، على حساب منتجي الثقافة!
ولفت البعض إلى أنه لا يمكن غض النظر عن الجمل الإنشائية في البيان، وذلك أن الربط بين مسائل ذات طابع عمومي كالانتماء الوطني والقيم النبيلة، بورود كلمات مستخدمة في التراث العربي، وبلغة العلوم، في سياق عمل مسرحي، موجه لليافعين، يبدو مستغرباً، ولا ينتمي للمنطق السوي في عالم الثقافة والأدب والفن.
 ومع معرفتنا بأن الصفحة الداخلية الأولى من النص كتب فيها بأنه موجه “لليافعين بدءاً من سن الرابعة عشرة”، أي في الصف السابع أو الثامن، فإن هذا يستدعي النظر للمشكلة من زاوية أن اليافعين أنفسهم، لم يكونوا يوماً بعيدين عن هذه الكلمات التي يسمعونها بلغة الشارع في بيئات متعددة. كما أن النص ذاته يحاول توجيه شخصياته نحو عدم استخدامها، ولا يحرضهم على التعاطي معها كأمر عادي!
بالإضافة إلى أن إثارة المسألة بهذا الشكل، في الوقت الذي تتحدث فيه وزارة التربية عن توجهها لوضع حصص تعليمية خاصة بالتربية الجنسية، يوحي وكأن ثمة اتجاهان متعارضان، يتصارعان حول أي نوع من الثقافة يحتاجه اليافعون السوريون!
تدقيق مضمون البيان، قاد متابعي القصة إلى ملاحظة أن الهيئة لم تذكر سوى اسم المترجم، أي الدكتور نبيل الحفار، وهو شخصية علمية وثقافية سورية رصينة، ساهمت في صناعة جيل كامل من النقاد المسرحيين، خريجي قسم الدراسات في المعهد العالي للفنون المسرحية، حيث تولى رئاسة القسم لفترة طويلة، بالإضافة إلى رئاسته لتحرير مجلة الحياة المسرحية، كما قام برفد المكتبة العربية بعشرات من الترجمات من اللغتين الألمانية والإنكليزية، وربما تكون أبرزها رواية العطر للألماني باتريك زوسكيند.

وبينما تم ذكر الآخرين من خلال وظائفهم، وليس من خلال ذكر الأسماء الصريحة، يستنتج كثيرون بأن كلمات البيان الموجزة تحاول إبعاد تبعات المسؤولية عن المدراء الذين يأخذون القرارات، بداية من مدير منشورات الطفل في ذلك الوقت، ومن بعده رئيس الهيئة الخطيب، وصولاً إلى وزيرة الثقافة مشوح، التي تم توزيرها للمرة الثانية منذ آب 2020.

الشيء الذي يعني في المحصلة أن محاولة التملص من حيثيات الواقع، بحسب نوايا ومزاعم القائمين عليها، أدت إلى تحويل المترجم مكسر عصا، عبر اتهامه بالتغاضي عن محتوى النص!

الدكتور نبيل حفار الحائز على جائزة الأخوين غريم للترجمة- برلين 1982، وجائزة معهد غوته للترجمة، فئة المحترفين- لايبزيغ 2010. وجائزة الدولة التقديرية في حقل الترجمة 2014.

لم يرغب بالتعليق على بيان الهيئة، لكنه أوضح أنه اختار ست مسرحيات للفتيان في العام 2011، وعرض المشروع على إدارة الهيئة فوافقت الإدارة بعد سنة، ودون توجيه ملاحظات حول المضامين. وبعد ثلاث سنوات صدرت المسرحيات في ثلاثة أجزاء. وفوجئ بعبارة “منشورات الطفل” على الأغلفة”!

كثيرون ممن تابعوا القصة أشاروا إلى أن المسؤولية عن أي شيء ينشر في الهيئة أو في غيرها، لا تقع على عاتق المترجم، الذي يطلب منه أن يكون نزيهاً مع النص، وألا يخلط بينه وبين نزعاته الشخصية، بل هي تقع حكماً على لجان القراءة، التي تبت بالنصوص لجهة قبولها أو رفضها، فهل مررت اللجنة التي قرأت هذه المسرحية عن قناعة بأن المقطع المشار إليه لا يحتوي أي مشكلة، أم أنها لم تقرأها أصلاً واعتمدت على قوة اسم المترجم؟ أم أن أحداً قرأ النص، وأبقاه كما هو، تاركاً إياه كصفحة مفخخة، للمستقبل، وقد حضر وقت تفجيرها، لعلها تتسبب بأذية شخصية ما، وهي على الأرجح الوزيرة مشوح!

لكن الأخيرة، وقد تلمست على رأسها على ما يبدو، لم تجد طريقة للدفاع عن نفسها، سوى أن تتهم المترجم، وهذا ما فعلته فعلياً، ففضلاً عن بيان الهيئة، علقت بدورها على المنشور الخاص به في فيس بوك وقالت: “الترجمة الحرفية أسوأ أنواع الترجمة. والأمانة إلى الأسلوب والمعنى لا تعني إطلاقا الحرفية وعدم الأخذ بخصائص وخصوصية اللغة التي ينقل إليها. وهنا تبرز قدرة المترجم… بكل الأحوال الخطأ وارد دائما”.

أحد العاملين في الوزارة (لم يرغب بذكر اسمه)، أشار بأن الحروب الطاحنة التي تجري في المؤسسات السورية، في ظل انقسام الولاءات بين مراكز القوى الأمنية، وبين محاولات السيطرة الروسية، في مواجهة التمدد الإيراني، صارت واضحة في مؤسسات وزارة الثقافة، التي ظهر وكأنها جزء من حصة الإيرانيين في الفترة الأخيرة، وقد تكون هذه الواقعة جزءاً من مما جرى ويجري.

*تلفزيون سوريا