بعيداً عن السياسة، تابعت على شبكة نتفليكس خلال الشهور الماضية، مسلسلات إسرائيلية عديدة، لكنني استغرقت بشكل خاص بمسلسلين، هما؛ “فوضى” و”آل شتيسل”.
المتعة، أو لنقل: التمرين على متابعة هذه الدراما، يحتاج قبل أي شيء لفك ارتباط مضمونها بالتاريخ وبالواقع الراهن، فهو يشبه تناول المخدرات، مع إصرار من يقوم بذلك على أنه لن يصبح مدمناً، ولهذا تراه بعد نهاية كل موسم درامي، يعيد التفكير، وتقليب ما سرى في دمه من بهجة، والخروج باستنتاجات نقدية، تمنع عنه الوقوع في فخ التطبيع اللاإرادي!
أظن، وأكاد أجزم، أن حالتي الشخصية، تنطبق على كثيرين، وفي المقابل ثمة آخرون، يتعاطون مع الدراما الإسرائيلية، بالآلية التي يشاهدون بها، مسلسلات الخيال العلمي والفنتازيا، فلا يجدون فيها ما يزعجهم، وليس هناك حدث يبعث على الاستغراب! ما يشعر به هؤلاء، هو محصلة أساسية لهذه الدراما، في سياق تأثيرها على المجتمعات المحلية، وحتى مجتمعات الأعداء!
فطيلة فترة صمت المدافع، وركون الطائرات الحربية في مرابضها، وعودة البنادق الآلية والمسدسات إلى خزائنها، لا يسمع أولئك الذين يعيشون في عالم شبكات الترفيه المريحة وخفيفة الظل (نتفليكس، هولو، أمازون، إتش بي أو) أصواتاً تقلق راحتهم، فهنا لا يتعثر المرء سوى بما يختار، ولطالما تم تأسيس هذه العوالم وفق منطق الاسترخاء، والابتعاد عن الواقع وأحداثه. فالمشاهدون يحلون الأزرار هنا، تاركين الشبكات الإخبارية القريبة منهم كقرب المسافة بين رقمين في جهاز الريموت كونترول، تعج بكل ما يعتري العالم من مآس وكوارث وحروب وأوبئة!
غير أن حسابات الحقل الدرامي لا تتطابق في فلسطين، مع حسابات البيدرين السياسي والميداني، حيث تجر حروب إسرائيل الإجرامية المشاهدين إلى مغطس ماء مثلج إجباري، يصعب التخلص منه، حين تسري في عقولهم عقارب الماضي، فيعودون إلى الحدث الواقعي الذي تندلع نيرانه، تاركين خلفهم العالم الافتراضي الآخر الذي أخذتهم إليه منتجات إسرائيل الدرامية!
الحدث المقدسي في حي الشيخ جراح، والهبة الفلسطينية في عموم الضفة، وأراضي الـ 48، والحرب الدموية على غزة، ليسوا جميعاً في مصلحة صناع هذه الدراما، وخاصة تلك المسلسلات التي تتوجه إلى الساحة المحلية، فتقدّم عوالم افتراضية تصنع للمشاهد وجها مشرقاً للدولة العبرية.
وهذا ما يجري مع مسلسل “فوضى”، الذي يقوم بنسج بطولات من نوع خاص، لمجموعة من عناصر المستعربين الذين يتركز عملهم في المجتمع الفلسطيني المحلي، في الضفة الغربية بشكل عام، لكن هذه الأمجاد لا تستطيع الصمود أمام حيثيات الحدث الواقعي.
إذ تنهار الأبنية المعقدة للشخصيات التي جرى تفصيل مواقع أحجارها التأسيسية بشكل دقيق، كي تكون مقنعة ومألوفة ومحبوبة ليس للمشاهد الإسرائيلي فقط، بل للمشاهدين الفلسطينيين والعرب، بعد أن تكفلت نتفليكس بتقديمها لهم.
سيسأل مشاهدٌ يتابع اعتقالات المستعربين للشبان الفلسطينيين في أحياء القدس العربية، المنتفضين ضد الاحتلال، عما يفعله دورون قائد مجموعة المستعربين، أي الأنموذج الإنساني لرجل الأمن الإسرائيلي (أداها الممثل وكاتب السيناريو ليئور راز)!
إذ لا يوجد هنا أعداء مستحلبين من “إرهابيي الجهاد العالمي” و”المنظمات التخريبية”، وما يجري في الشارع لا تتم صناعته في عقله وعقل شريكه في الكتابة آفي اسخاروف، أو استعادة من تجاربهما الحياتية، بعد أن أديا الخدمة فعلياً في هذا الجهاز الأمني ذاته!
إنها مواجهة من نوع مختلف، ستفرط حقيقتها عقد محبي إطلالات أبطال المجموعة، التي يؤديها ممثلون جميلون، بكاريزمات ملتهبة، وبدلاً من أن تبقى الساحات في انستغرام متاحة لصورهم، سيذهب جزء كبير من الجمهور لمتابعة صور الشابات والشبان الفلسطينيين أصحاب الابتسامات، الذين يعتقلهم عناصر من زملاء آفي وليئور!
المشكلة التي يتورط فيها صناع الدراما الإسرائيلية هنا، تكمن في أن التناقض الحاصل بين منتجاتهم وبين الواقع، ليس تقليدياً، فهو لا يدور بين عالم مختلق، وبين آخر حقيقي، ولا يتعلق بالتباين في المحتوى بين فضائين ينتميان لجهتين متحاربتين فقط، بل إنه يتصل بتكوين خاص يجمع بين هذين المسارين وغيرهما.
فالحكاية الدرامية في هذه المسلسل، لا تبنى من خيال محض، بل من عوالم حقيقية، تتجلى فيها وبشكل كثيف الطبائع الإنسانية، بآلامها وأوجاعها، وبأفراحها وسعاداتها، فتتداخل عوالم المتصارعين، مع تركيز على إنسانية المنتصر، المتغلب!
وينتج عن هذا الخلط الذكي المدروس، أننا كمشاهدين سننفصل عن الواقع، لتصبح هذه الدراما بالنسبة لأكثرنا تدقيقاً، مجرد قصة مختلقة، يمكن القبول بها تحت مثل هذا العنوان. وسيتحول العالم الذي تجري فيها بالنسبة لعموم المشاهدين وعلى تعدد مشاربهم، منبتّاً عما قبله، وليس عما بعده، ضماناً لإنتاج مواسم جديدة!
يُنقلُ هذا التراكم المشغول بعناية، على يد ممثلين لا يتكلفون في الأداء، ولا يستجلبون شخصيات واقعية جاهزة، بل يقومون ببناء العلاقة معها وفق منطق بحثي، يجعل المتلقين يتعايشون معها تبعاً لمبدأ الإيهام، لكن تناقضاتها وصراعاتها، مع ذاتها ومع المحيط، وهي مساحة لعب الممثلين ستحضر بقوة، فتصبح جاذبيتها مضاعفة، أمام الجمهور الذي يكتشف أن لدى الإسرائيليين ما هو أكثر من الأسلحة والقمع!
وسيلعب تكنيك إغفال الأسباب المحرضة، دوراً كبيراً في عزل الشخصيات الفلسطينية الشريرة، بينما سيرحب الجمهور ببعض الأسباب النفسية، أو الحاجة والفقر، ونزعات الثأر والانتقام في توضيح أسباب تورط الفلسطيني “الجيد”، الذي يستحق أن يتعاطف معه الجمهور!
أما في مسلسل (آل شتيسل) الذي بدأ عرض موسمه الثالث محلياً نهاية السنة الماضية، ثم بث في شبكة نتفليكس، فإن المسألة الواقعية تبدو مريحة جداً لصناعه، فقد باتت لديهم أيقونات تسويقية رائجة هي شخصيات رئيسية مثل الحاخام شولام (دوف غليكمان) الباحث عن الشريكة المناسبة بعد موت زوجته، وعن الطعام الطيب، وابنه أكيفا (ميكايل ألوني) الحاخام الشاب والرسام الذي يبحث عن الحب والعاطفة، ويروم مستقبلاً فنياً، يتعارض مع الحياة المتزمتة التي ولد وعاش فيها.
في هذا المسلسل الذي جاء منتجه يهوناتان إندرسكي من البيئة ذاتها، لا وجود للفلسطينيين نهائياً، إذ تجري الأحداث بين حي غيئولا في القدس الغربية، الذي يسكنه يهود من طائفة (الحريديم)، وحي بني براك في تل أبيب، وفي مدن فلسطينية أخرى (صفد، طبريا)! ويكاد المشاهد يجزم بعدم وجود اليهود العلمانيين، يساريين كانوا أم صهاينة.
فكل شيء هنا يتمحور حول العائلة وأفرادها وعلاقاتهم مع محيطهم الضيق، على أرضية التدين، والاستغراق بالقواعد المنصوص عليها في الفقه التوراتي، من أجل فك الاشتباك بين الحياة اليومية وبين الآثام والذنوب.وهكذا سيبرز الرجال في سياق العمل بوصفهم طلبة دين وحاخامات يقضون نهارهم في المدارس والمؤسسات الدينية، مع قلة من الآخرين الذين يعملون في شؤون خدماتية. بينما ستظهر النساء كجزء ملحق، يمارسن أدوارهن ضمن الشراكات العائلية أو المؤسسة لها.جاذبية التلصص على عالم المتدينين اليهود، تشكل أول بؤر نجاح مسلسل كهذا، محلياً، وعربياً وعالمياً. وسيكون ابتكار “الدرامية” من العادي، البؤرة الثانية؛ حيث يتم تحويل عوالم الشخصيات التي تعيش الوحدة بعد موت الزوجات أو الأزواج إلى مادة صراعية، وكذلك رغبات بعض أفراد هذا الوسط بالخروج من محيطهم المغلق، مروراً بآليات اختيار الشركاء الحياتيين، وصولاً للتعارض بين الفن وبين الدين!
وفعلياً، سيتم في مواسم المسلسل الثلاث، التأسيس لتعاطٍ خاص، واستثنائي، مع مجتمع لديه اعتباراته الخاصة وقوانينه المسيرة، وأيضاً تطرفه الذي يمكن بقليل من التفهم، القبول به، بعد أن يذهب المشاهد بعيداً في استظراف الألبسة السوداء والأهداب البيضاء المنسدلة، كجزء من الصورة الأساسية لليهودي المتدين، بلحيته الكثيفة، وسوالفه المفتولة، على جانبي وجهه، والعادات والثقافة والأغنيات.
وفي المحصلة، لن يخرج المشاهد بانطباع سلبي عن هكذا عوالم منغلقة، تتردد في شوارعها وفي منازلها، على حد سواء، أناشيد توراتية التي تتغنى بإسرائيل كوطن وحيد يعيش فيه المؤمنون، يجب أن يطرد منه الأغيار.ومن هذه الزاوية، وبعد رؤية الحملات المسعورة التي قام بها إسرائيليون في الأيام الأخيرة، ضد العرب، في المدن الفلسطينية التي احتلت في النكبة أو في النكسة، وكذلك في الهجمات المتكررة ضد المعتكفين في الأقصى، وسكان حي الشيخ جراح، لا بد للمشاهد الذي استلطف هذا المسلسل وشخصياته، أن يفكر ويسأل: ما الذي يفعله آل شتيسل الذين يعانون من فيضهم العاطفي مع جموع مستوطنين هائجين هنا وهناك، يصرخون: “الموت للعرب”؟!
*المدن