لم يكن للشعراء في سوريا ومنذ عقود أي أبراج عاجية يتوارون فيها، بل كانوا متاحين جداً، يمكن رصد حضورهم في الأمسيات وفي الندوات، كما أن المنابر التي كانت عصية على الأجيال الجديدة، بقيت ولعقود، وربما حتى الآن، مفتوحة لهم، شرقاً وغرباً.
هؤلاء الذين حملتهم عقود الأيديولوجيا، وأجنحة الأحزاب، بأساليبهم المختلفة عن السائد والمكرر، لم يخذلوا القراء، بل كانوا يباغتونهم كل حين وآخر، بقصائد جديدة، تطرق في مضامينها، وتعابيرها، على أوتار الحياة اليومية، وكآباتها، فيصبح صوت الشاعر في هذه الحالة، كناية عن الأصوات الخامدة، أو المخمدة بقمع السلطة.
ليست مشكلة نزيه أبو عفش كمثال لصعود الشاعر وكذلك انحداره، أنه صار نجماً ذات يوم، بفعل الفضاء العام، وتلقيه لما يقوله، وكأنه صوت الجماعة المتمردة.
هي مشكلة من صفقوا له ولم يتوقفوا عن ذلك، فظن نفسه معصوماً، منزهاً، يرى نفسه ناطقاً بالحق، حتى وإن كتب أو قال الترهات!
الأنوار العالية وهي تسلط على الكائن، تحجب عن عينيه الرؤية، فيرى نفسه غارقاً في الضياء، وتضيع بالتالي الحدود والفواصل بين “السلوغون” الذي يلتصق به، وبين ممارساته على أرض الواقع. والأضواء ذاتها، وهي تنعكس على ذاته، تجعله يرى نفسه فوق الآخرين! إنه ابن الأعلى، المصاغ بحروف ذهبية، لا يبلغها الآخرون؛ في أمسية مع أبي عفش في المركز الثقافي العربي في أبي رمانة، في بداية التسعينيات، قال الرجل على المنبر: “أقرأ الشعر الذي يكتبه الآخرون فأظنه لي”!
الشاعر الذي التصق باليسار السوري، وكتب شعراً في الأحلام المهزومة، والثائرين المعلقين على أعواد المشانق، يحق له في اعتقاده أن يحصل على نسبته من الأمجاد والمكاسب، لا بل أن يفتح لحسابه أيضاً سلطة ودولة خاصة*!
لكن، من قال أن دولة الشاعر تبقى؟ دولة الأوراق والكلمات، حتى وإن رأى الشاعر نفسه فيها حاكماً مطلقاً، تنهار مع نسمة هواء، وتتلاشى! ولهذا سيحتاج في وقت ما للتماهي مع دولة حقيقية ومخابرات وجيش!
سنوات التسعينيات، وما بعدها، من تراجع للمنبرية اليسارية، والأمواج التي تحمل كأصوات للجماعة، جعلت فرص الحضور تتلاشى أيضاً! لم يعد مهماً للناس وللقراء أيضاً أن يبحثوا عن الشاعر أو عن أخر ما كتبه! لقد أتى القمع أكله، فلم تعد القضايا الكبرى، ولا حتى الصغرى، موضع تركيز الجماعة، بل تقلص عدد المتابعين، وصار القراء والمهتمين نخبة أيضاً!
في أزمنة كهذه، ومع تبدلات سياسية، جرى في سطحها ماء متدفق، وبقي عمقها صلباً، متراصاً، قوامه إرهاب الحاكم للمحكومين، سيفقد الشاعر حظوته، وسيتحول فقده للمكانة، إلى إحساس خاص بالهزيمة!
وبقليل من الكيمياء اللغوي، يمكن مطابقة الخسارة الشخصية مع الكارثة العامة، وصناعة المزاج السوداوي ليصبح كناية عن الاستياء مما يجري!
لكن الجموع التي يتغير مزاجها بحسب حاجياتها، لن تعود إلى الوراء، ولن ترى في نزيه الذي جعل نفسه “قديساً في أيقونة”، صوتاً لها!
بل ستتعاطى معه كحالة سابقة، تتبع زماناً مضى، كانت له مفرداته وأحلامه وثوراته المأمولة، فإذا كان للبكائية كنبض شعري من جدوى في ذلك الآوان، لن يكون لها من قيمة، في الوقت الذي تآكلت ضمنه الحدود بين البشر، وباتوا يتفاهمون مع بعضهم برموز وإشارات مختلفة! الشعر بذاته وجد نفسه في مأزق، ولم تعد الإشكالية تتعلق بهذا الشاعر أو ذاك!
التحول العالمي، الذي فرضته التقنية، من الخصوصيات المغلقة المتقعرة، إلى الانفتاح الواسع، وبما يمحي الحدود والخطوط الدقيقة بين الكينونات، ليس أزمة شخصية، بل هو شأن عام، يستحق أن يبذل الشاعر في سبيل فهمه جهداً إضافياً!
وقبل هذا عليه ألا ينغلق على نفسه، كنوع من ردة الفعل على الإهمال وتلاشي الاهتمام السابق!
مشكلة نزيه أبو عفش ليست خاصة به، بل هي تتعداه، لتكون مشكلة آخرين، رأوا أنفسهم في لحظة ما خارج أضواء الجماعة! صحيح أن هذه الأضواء وفي العديد من تمظهراتها، استهلاكية، وبلا قيمة، مليئة بالترهات، وبالانحطاط، وهذه كلها جزء من المشهد العربي العام في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. لكن هذا بمجموعه لا يجعل المثقف أو الأديب يمضي صوب إدانة الناس، والتعالي على يومياتهم، حتى وإن لم تناسب ما يتذوقه في بيته، من موسيقى ومنتجات ثقافية “راقية”!
كثيرون من المثقفين السوريين، لم يروا في القراء الذين منحوهم حيز التلقي والتفاعل سوى “جمهور”، أو “عوام”، حاضر حين الطلب، وبذلك كان لا بد من رسم الحدود بين الجماعتين، ووضع الأمور في نصابها، من وجهة نظر القلّة المزدهية بماضيها، والمرتاحة لعلاقتها الراسخة مع النظام، ولابد من تثبيت التخوم!
في إحدى تجليات هذه العلاقة، يشعر بعض هؤلاء أنهم ليسوا فقط جزءاً من المعادلة المتفق عليها مع النظام، بل إنهم هم ذاتهم النظام!
ولهذا لن يكونوا مرحبين بالفئات الشابة القادمة إلى عوالم الثقافة والإبداع بأحلام يانعة وأدوات أكثر تطوراً تقنياً، وبزوادة معرفية أوسع بحكم الانفجار الكبير في عالم التواصل! وحين سيجد هؤلاء الشباب أن حيواتهم ستهدر على يد نظام بيروقراطي قمعي، لا يفتح باباً للحرية، إلا ويغلق بدلاً عنه سماوات، وحين سيذهب هؤلاء إلى ثورتهم، وإلى موتهم، وإلى نزوحهم، ولجوئهم، وتشظيهم، ولا ترى النخبة المهددة في الحدث سوى مؤامرة، وتصمت عما يجري من قمع وإرهاب، سيذهب اليائسون إلى خياراتهم؛ كمواجهة العنف بالعنف، والموت بالموت!
لم ولن يعجب أبو عفش بمثل هذه الثورة، فهي بالنسبة له ولغيره “رعاعية”، ذات ملامح غير محلوقة الذقن، ومشهديتها شعبية جداً، سوقية! قابلة للانسياق، عرضة للبيع والشراء، خليجية، غربية، إرهابية!
يمكن ببساطة استدعاء التوصيفات المتاحة على شاشات الإعلام الرسمي للحديث عن هذه الثورة، وبدلاً من طرح الأسئلة التي تحتاج للتفكير والبحث، سيذهب الشاعر إلى البحث عن أمجاد جديدة على فيسبوك، بعد أن ضمن عبر الموقف السياسي جمهوره مسبقاً، إذ لا يحتاج الحصول على التصفيق واللايكات سوى أن يشتم من ثاروا ضد الأسد، وأن يتهمهم بالتخلف! وأن يتم تحويل الآخرين المختلفين إلى عملاء أجراء يتبعون هذا المشغل أو ذاك!
وفي سياق تألق هذا الاضمحلال للوعي والشعر، سيتماهى أبو عفش مع مجرم مافيوزي هو فلاديمير بوتين، وهذا مجرد تفصيل في الطريق إلى الهاوية، فيرى فيه المخلص، وسيكتب بصفاقة منشورات رديئة وتافهة، يستحي المرء من أن يذكرها، لا يمكن تصور أن من يدونها هو ذلك الشخص، الذي كان واجهة لرؤى جيل ثوري التمع في السبعينيات، ثم قضى في سجون الأسد الأب في ثمانينات القرن الماضي.
هل المشكلة في نزيه وحده الذي منحه النظام جعالة جائزة الدولة التقديرية في 2018؟ بالتأكيد لا، رغم أن الشاعر الذي حشى كتابه الأخير “ربيع المآتم” بكلمة الموت في كل قصيدة تقريباً، يبدو مصاباً بالخوف من النهاية، وهذا عرَضٌ لا يوجد له دواء!
إنها حالة شبه عامة، تتكرر في الأوقات العادية، لكنها في الأوقات الصعبة، تصبح كالوباء!• انظر تشريح إميل منعم لانفصام الشخصية عند نزيه، في الرابط:https://bit.ly/38oQHXd
*المدن