لا يمكن في أي حال من الأحوال تصنيف قرار عودة البعثة الأثرية الإيطالية للعمل في موقع تل مرديخ، ومتابعة التنقيب فيه، ضمن مسار “التعافي المبكر” الذي بدأت منظمات دولية عديدة تكرره، في سياق علاقاتها مع الملف السوري.
فالحرب لم تضع أوزارها، والتنمية المحلية في أخفض مناسيبها، كما أنه من غير الممكن إطلاقاً الإشارة إلى وجود أي مسعى للانتقال السياسي. إضافة إلى أن شيئاً لن يتغير في السياسية الأوروبية المعلنة، تجاه العلاقة مع مؤسسات النظام.
مع إدراك المؤسسات كافة أن أحداً لا يستطيع ضمان أمن أي بعثة، تأتي إلى منطقة صراع لتقيم فيها، طالما أن الغارات الروسية ما برحت تقتل السكان والنازحين، بالتوازي مع المناوشات شبه اليومية بين الفصائل المسلحة من جهة، وقوات الأسد والمليشيات الطائفية التي تساندها من جهة أخرى. كما أن العمليات العسكرية التي قام بها النظام في المنطقة، خلال الفترات السابقة، لم توفّر البشر أو الحجر، وقد نال المكان من هذه الأفعال نصيباً!(*)
وعلى ضوء هذا كله، يسأل المتابعون: ما الذي يحفز باولو ماتييه، أستاذ الآثار وتاريخ الفن في الشرق الأدنى القديم في جامعة لاسابينزا روما، لأن يدفع بحماس مفرط صوب عودة المُنقِّبين إلى الغوص بين أحجار ورمال ريف إدلب المضطرب؟
على أهميته العملية، والآثارية، لا يبدو موقع مملكة إيبلا القديمة مختلفاً عن عشرات ومئات المواقع السورية الأخرى التي تعرضت لكوارث عديدة خلال السنوات الماضية، وتنتظر أن تعود إليها فرق العمل التي غادرت سوريا منذ منتصف العام 2011، مع احتدام جذوة الثورة السورية. لكن الوضع العام لهذه المواقع، والذي يجعلها تتبع واقع السيطرات الميدانية، يضعها في حالة ارتهان كامل للملف السياسي والعسكري.
البروباغندا الإعلامية الروسية المهتمة بالثقافة وبالآثار المحلية، والتي برزت خلال السنوات السابقة، لم تُولِ هذا الموقع ما يستحقه، بل كان تركيزها وبشكل كامل على مدينة تدمر التي تعرضت أبرز معالمها لتدمير كامل على يد تنظيم “داعش”، حيث بدأت مشروع ترميم الأوابد المتضررة بالتعاون بين المديرية العامة للآثار والمتاحف في وزارة الثقافة، والأمانة السورية للتنمية التي تديرها أسماء الأسد، ومركز إنقاذ وترميم الآثار التابع لمعهد تاريخ الثقافة المادية لأكاديمية العلوم الروسية. بالإضافة إلى عمل بعثة أخرى على التنقيب عن الآثار في المياه الإقليمية السورية.
بالتأكيد يمكن فهم حماسة ماتييه للعودة إلى الموقع من زاوية علاقته الشخصية به تاريخياً، إذ اقترن اسمه بإسم المكان، ليس فقط من خلال الإعلام السوري الذي كان “يطنطن” له كلما جاء الحديث عن إيبلا، إلى درجة الإيهام بأن الرجل هو من نقش الرقم المكتشفة فيها. فقد شاع في أوساط الآثاريين السوريين، بحسب الناشط السوري في هذا المجال، عمر البنية، أن الرجل محصّن ومحميّ بحكم علاقته الطيبة بالأسد الأب ومن بعده ابنه بشار وزوجته أسماء، وقد تجلّت ملامح ذلك في عدم قدرة المديرية العامة للآثار والمتاحف على التدخل سابقاً في أي من شؤون هذا الملف. وفي المقابل بذل ماتييه جهوداً كبيرة في تسويق زوجة الأسد في الأوساط العلمية والثقافية الإيطالية كراعية للثقافة والفن وللتنمية، فمُنحت الدكتوراة الفخرية في العام 2003 “لجهودها المتواصلة في الحفاظ على التراث السوري الأصيل وحمايته” من جامعة لاسابينزا في روما، أي الجامعة ذاتها التي يعمل فيها ماتييه، حيث قام رئيس الجامعة جيسيب داسينزو في العام التالي، بتسليم شهادة الدكتوراه الفخرية إلى أسماء الأسد في عين المكان، بمناسبة افتتاح الموسم الثاني من التنقيبات في حديثة إيبلا، ثم جرى منحها الميدالية الذهبية لرئيس الجمهورية الإيطالي في العام 2008.
وقد بادلت “السيدة الأولى” ماتييه الاهتمام بموضوعه الأساسي، فذهبت، بحسب الروائية إبتسام تريسي، إلى تل مرديخ و”التقطت صوراً وهي تنزل إلى الحفريات وتحفر بيدها مع المنقّبين عن الآثار، وأمرت ببناء صرح مركز ثقافي هناك، في مدخل القرية، على أمل أن تفتتحه، ويكون أحد إنجازاتها الثقافية في المحافظة. وصار جاهزاً العام 2009 ولم تفتتحه، ربما كانت تنتظر مناسبة قومية ما لإقامة احتفالية كبيرة مع تدشين المبنى. وفي العام 2013 استهدف “داعش” المبنى بسيارة مفخخة بسبب سيطرة لواء “سيوف الحق” عليه.
استثمار النظام للموقع إعلامياً لم يتوقف عند هذه التفاصيل، بل إن آثار المكان عادت للواجهة بتاريخ 25 كانون الثاني 2018، عندما أهدى ممثل النظام، بشار الجعفري، للمبعوث الأممي ستيفان دي مستورا، قطعة أثرية سورية، خلال مباحثات فيينا، قال إن اسمها هو “أنا أنتمي”، وهي تمثل أقدم معاهدة سلام في العالم، ويعود تاريخها إلى العام 2350 قبل الميلاد، وإنها تعود إلى مملكة إيبلا، وهي من ضمن المكتشفات التي حققتها البعثة الإيطالية التي كان يقودها باولو ماتييه. الأمر الذي استدعى تحركاً من جهات المعارضة السورية لمنع النظام من المتاجرة بالآثار واستغلالها لمصالحه.
إذاً، علاقة ماتييه بموقع إيبلا لا تخصه وحده، بل هي شراكة معلنة بينه وبين أعلى سلطة في النظام. وفي هذا المسار لا بد للأسئلة عن الدوافع أن تُطرح، خصوصاً أنه لا يخفي في تصريحه للصحافة قبل أيام، بخصوص عودة البعثة، وجود خطة ذات ديمومة للعمل في الموقع، بتمويل مستمر، حيث لا يمكن ذلك من دون الحصول على المال الذي يتوجب على الحكومة الإيطالية وعلى جامعة لاسابينزا أن تؤمناه كي “لا يضيع جهد 47 سنة”!
ويضاف إلى ذلك أن النظام ذاته، وكعادته في كل الملفات، يساوم المجتمع الدولي أيضاً في هذا الشأن، ليكون أي موقع أثري هو بوابة لفك الحصار عنه وعن مؤسساته، وسبيلاً للحصول على المال. فهل تثمر هذه المساعي المريبة عن فتح نافذة للتطبيع مع النظام من بوابة إيبلا؟!
(*) أشار تقرير نشرته في العام 2013 جمعية حماية الآثار السورية المعارضة، إلى سلسلة من ممارسات فصيل مسلح محلي أضرت بالموقع، بالإضافة إلى عمليات تنقيب غير شرعية فيه.
*المدن