علي سفر: موت شاعر أم مقتله

0

غير مسبوق هذا التلقي السوري، والاحتفاء المتأسي بقصيدة واحدة لقصة الشاعر الراحل نادر شاليش، لقد نشرت مواقع وصفحات معارضة الخبر، وفعل ناشطون كُثْر الأمر ذاته، وتم عرض أفلام مصورة للراحل وهو يلقي قصيدته التي تحمل عنوان “أرسلت روحي إلى داري”، كما تداولت وسائل إعلامية حكاية الشاعر، واضعة مأساته ضِمن سياق تغطياتها للواقع المحلي الذي يبدو أن حلكة سواده لن تنتهي!

نادر شاليش نازح ممن يعيشون في مخيم أطمة على الحدود السورية التركية، حيث يُسجن مئات الآلاف من السوريين في بيوت صفيح وخيام لا تقيهم حراً أو برداً، منسيين تماماً، لا يتذكرهم أحد إلا في أيام الشتاء الماطرة، حيث تغرق مساكنهم بالماء، وتتحول ملامحهم إلى وجوه ملطخة بالطين، الذي تنغرز فيه أقدام أطفالهم، فتصبح أصدق صورةٍ عن سورية التي يحكمها بشار الأسد ونظامه!

نادر شاليش

لكن هذه الصورة الصامتة، تنتهي من الحضور على الواجهات، والصفحات الأولى، ومقدمات نشرات الأخبار، حال انتهاء الموجات المطرية، فتُنسى نداءات النازحين التي تدعو السوريين الآخرين لنجدتهم وتقديم المساعدة لهم، كما تنسى التقارير الإعلامية التي يصنعها المراسلون المحليون، ولا يبقى فعلياً من الحكاية سوى الصمت والخذلان، وانتظار الموسم الشتوي القادم، حيث لا تغرق المخيمات بالماء فقط، بل يغرق السوريون كلهم بالعار!

“لا يملك الشاعر سوى أن يقول قصيدته، فيبثها الشكوى، والظلم الذي لحق به، أو الجور الذي أحاق بأهله وناسه”، هكذا قدمت المناهج الدراسية قصائد وجدانية تعلموا كلماتها أثناء ارتيادهم للمدارس، فظلت حاضرة في أذهان السوريين كلمات شفيق المعلوف في قصيدة “يا ثلج” التي يقول فيها:

“يا ثلج قد ذكرتني أمي

أيام تقضي الليل في همي

مشغوفة تحار في ضمي

تحنو عليَّ مخافة البرد

يا ثلج قد هيجت أشجاني

ذكرتني أهلي وأوطاني”

لكن سوريين كُثراً، لم يسمعوا أصلاً بوجود نازحين سوريين في أرض وطنهم، ولا بمخيم أطمة، ولا حتى بلجوء أكثر من ثلاثة ملايين ونصف مليون سوري إلى محافظة إدلب، هرباً من الموت على يد النظام، سيستغربون وباستهجان، أن يهتم مواطنون سوريون آخرون بقصيدة يقول مطلعها:

“أرسلت روحي إلى داري تطوف بها

لمَّا خطانا إليها ما لها سبلُ

أن تسأل الدار إن كانت تذكرنا

أم أنها نسيت إذ أهلها رحلوا”

قالها شاعر رحل قبل أيام اسمه نادر شاليش، كان نازحاً على الحدود، بعد أن غادر بلدته “كفر نبودة” منذ العام 2014!

ربما سيشمئزّ البعض من توقف الشاعر عن استكمال القصيدة بعد أن غصّ وهو يخرج الكلمات من قلبه ومن ألمه ووجعه، وحسرته على حياته، ليقولوا بحنق: “يا لها من ميلودراما”!

وربما سيرفض البعض الآخر الاستماع لها، أو قراءة كلماتها، طالما أنها منظومة كقصيدة عامودية، بينما يسود في الفضاء الثقافي العام الشعر المنثور، أو على الأقل نص التفعيلة، فلو كتب شاليش قصيدته بأحد هذين الأسلوبين لكان لها حضور في المواقع الثقافية ولزاد الاهتمام بها!

لكنه -ويا لَلأسف- كتبها كما قالتها رُوحه، ولم يلتفت لصوت مصلحته، ولنداءات الشهرة والاحتفاء!

وربما أيضاً لو سئل الشاعر أدونيس الذي بلغ هذه السنة عامه التسعين، عن الرجل ومعاناته، لكان جوابه أسوة بجوابه حينما سُئل عن فرج بيرقدار السجين؛ هل نزح شاليش عن بيته بسبب قصيدته؟ فلو كان الأمر كذلك لكان سيحظى بالاهتمام!

وهنا، يرجى من جميع من يقرأ هذه الكلمات، ألا يخبر أدونيس بأن الشاعر خريج كلية الشريعة في دمشق، كي لا يقلب الصفحة عن شعريته أو سوريته ليفتح صفحة علاقته بالإسلام، وليبحث عن موقفه من مسألة “فصل الدين عن الدولة”!

إغفال تداول القصة، وعدم تداول مأساته، في العديد من المنابر العربية، لا علاقة له بشعرية الرجل، أو شكل قصيدته، ولا حتى ما درسه أو تعلمه، أو سبب تطوعه في الجيش زمن الوحدة مع مصر، ثم استقالته منه، ومتابعة حياته مثل كل مواطني بلده على هامش كل شيء، في بلاد أقصت كل سكانها، لتعيش فئة حاكمة باغية، ولتستولي على ثورات ومقدرات السوريين!

ولكنها ذات علاقة واضحة وراسخة، بكونه ضحية النظام الذي هجره من بيته مثل ملايين غيره، فلماذا يهتم محرر ثقافي بأمر كهذا في زمن إعادة تعويم المجرمين، قَتَلَة الشعوب؟

يكتب الشاعر في موته جزءاً أساسياً من سردية المقهورين؟ فيرسم الحدود بين الرحيل إثر عارض صحي، وبين المقتل “بطعنات الأسى”، وتبقى القصيدة، في لحظة مثل هذه، أشد الأدلة وضوحاً التي تؤشر إلى قاتل يعرفه الجميع!

*نداء بوست