المنطقي فيما يجري شمال سوريا أن يمتثل النظام السوري لاتفاقيات سوتشي وأستانة التي رعتها الدول الثلاث الضامنة تركيا وروسيا وإيران، فتقف أرتال جنوده عند خطوط محددة تم رسمها على الخرائط بوصفها مناطق خفض تصعيد. لكن، لا يبدو أن هذا ما سيحصل في الفترة القادمة، فبعد أن صار الطريق M5 مسيطراً عليه، وهو الطريق الذي توقف استخدامه منذ أن سيطرت فصائل الجيش الحر على الجزء الواصل بين شمال حماة ومدينة حلب في عام 2012، وتبعاً لتاريخ روسيا الطويل في المراوغة والتنصل من أي اتفاق، وهي الداعم الأهم للنظام في الوقت الحالي، فإن الشكوك التي تدحض الافتراض المنطقي تتجه إلى السؤال عما ستكون عليه الخطوة القادمة لها ولجيش النظام، الذي تسانده وتؤمن تغطيته القتالية الجوية!
بالقياس على ما جرى، يتوقع السوريون الثائرون الذين يعيشون أسوأ كارثة إنسانية في القرن الحادي والعشرين تحت مرأى ودون تدخل العالم كله، استمرار مأساتهم، حيث يوقن هؤلاء أن شهوة السيطرة لدى النظام، الذي لا يلجم حلفاؤه نزواته، ستدفعه نحو التقدم أكثر فأكثر، فيمضي في المخطط الذي قيض له أن يعمل وفقه، حسب المتفق عليه في الخفاء بين الدول الإقليمية والقوى الدولية، صوب استعادة هيمنته على كل محافظة إدلب وليس مدنها فقط! فتمضي قواته قدماً للسيطرة على ما بقي من مناطق خرجت في وقت ما عن سيطرته! وهذا ما أشار له رأس النظام في كلمته التي وجهها قبل يومين لحاضنته الشعبية وقواته، التي باتت بالعرف الشعبي جيش احتلال، إذ لا يهرب الناس من جيوشهم الوطنية بل يفزعون من جيوش المحتلين الغريبة، ولعل صميم هذه المجاميع المقاتلة يوضح كيف أنها باتت هجيناً تم تركيبه ليضم في جوانبه المقاتلين المرتزقة والميليشيات الطائفية بالتراصف مع بقايا فرق جيش النظام، وآلاف من “السرسرية” و”الزعران” الذين يقاتلون في سبيل مكاسب خاصة، تبدأ بالسلب والنهب ولا تنتهي بالثأر من هذا وذاك، فلا ينجو من أفعالهم البشر ولا حتى الحجر!
إذاً، لا شيء منطقي في الراهن الذي يعيشه السوريون ميدانياً في محافظتي حلب وإدلب، وتؤكد على هذه الخلاصة التوقعات التي يطلقها المحللون وكذلك السيناريوهات التي يرسمونها للمرحلة السوداء القادمة!
وقبل كل هذا، هل كان من المنطقي أن تنسحب فصائل المعارضة من كل هذه المساحة من الأرض، بمدنها وقراها، دون خوض قتال فعلي مع القوات الغازية التي يعرفونها جيداً ويعرفون أن حليفها الروسي سينفذ سياسة الأرض المحروقة في سبيل تقدمها، حتى وإن كلف ذلك تهجير الملايين؟!
هل كان هؤلاء غير مدركين لما سيحدث؟ أم كانوا يعرفون أن مصيرهم قد حسم سلفاً!
وأن ما يجري الآن هو الخطوات الظاهرة والمعلنة لما تم الاتفاق عليه سابقاً فلم يعد هنا من جدوى للمقاومة! ففضلوا الانسحاب تاركين المجموعات المحلية من المسلحين لمصيرها، فقاومت قليلاً ثم انسحب أفرادها ملتحقين بمن سبقهم!
من الواضح أن الكارثة الحالية التي يصبغها اللامنطق بلونه الباهت المقيت ليست قصية عن الفهم، خاصة وأن الحكومة التركية وهي طرف إقليمي ذو دور رئيسي في الحرب السورية تقوم فعلياً برسم خطوط التماس الجديدة بالتساوق مع جدال معلن مع الجانب الروسي حيال الالتزام ببنود سوتشي، وفيما تلتقي الوفود العسكرية في أنقرة مرة وفي موسكو مرة أخرى، لا يظهر أن هامش التعارض بينهما كبير فعلياً. لا بل إن كثيرين يثيرون الشكوك بأن ما يجري من تصعيد في اللهجات إعلامياً إنما هو موجه للتسويق المحلي. وأن الطرفين عقدا العزم على تثبيت مساحة المنطقة الآمنة برعاية دولية، توفر على العالم مشاهدة أرتال اللاجئين الذين يعبرون البحر إلى أوروبا عبر اليونان، والتي قامت بدورها بوضع خطة لإقامة معسكرات مغلقة أشبه بالمعتقلات للاجئين الذين يفدون إليها من تركيا، سينتهي إنجازها في مطلع الصيف القادم!
المقطع الزمني الذي نتحدث عنه ههنا واصفين إياه باللامنطقية ومثيرين حياله عشرات الأسئلة ليس مستجداً تماماً في سياق الثورة السورية وتحولاتها السياسية والميدانية، لا بل إنه متكرر عبر نسخ سابقة جرت في مناطق أخرى من الأرض السورية، وكان جمهور الثورة يرتجي من الفصائل أن تستفيد من دروس التجربة الأولى، ولكنها وصلت ربما للتجربة العاشرة وهي تعيد ارتكاب الأخطاء ذاتها، فهل كان هذا منطقياً أيضاً؟!
جوهر التفكير بالمنطق يقوم على أن يبنى الاستدلال عبر إقرار الدال لتثبيت المدلول، ولكن حين يخالف كل شيء أوليات المنطق، يصبح من الواجب نقض صحة المدلول عبر مراجعة تكوين الدال، والبحث فيما إذا كان الاستدلال صحيحاً أم لا!
هذا يفضي وعبر الإحالات إلى الواقع أن يقوم أحد ما بإعادة صياغة الأسئلة بجرأة لا تلقي بالاً لردود الأفعال المتوقعة حيال نقض أي وهم راسخ لدى الجمهور.
من هنا يمكن السؤال عن تكوين الفئات التي وضع جمهور الثورة ثقته فيها لتكون متراس حمايته، وكيف كانت هذه الفئات من فصائل الجيش الحر والفصائل الإسلامية (معتدلة ومتطرفة) تقوم بالتعيش على فكرة حماية المدنيين منذ بداية تشكلها، ولكنها كانت فعلياً تنحو إلى إعادة إنتاج النموذج السلطوي المحلي، ومع حدوث الارتهان لهذا الطرف الإقليمي الداعم أو لتلك القوة الدولية المساندة، في سياق تشكل الإطار القانوني لهذه السيطرة كانت المؤشرات تقول ومنذ البداية إن التناقضات الحاصلة بينها سوف تتجه إلى الحسم العسكري ليكون هو السبيل الوحيد لحل أي مشكلة مناطقية أو محلية!
وبالنظر إلى ما يردده كثيرون حالياً وهم يشاهدون انسحابات الفصائل من المناطق “المحررة” من أن مؤامرة كبيرة ما صنعتها الفصائل الإسلامية ومنها على وجه الخصوص داعش وجبهة النصرة مع النظام أدت إلى دمار المناطق الثائرة، فإن الحقيقة تبدو غير ذلك.
فالثابت فيما جرى هو أن السيطرة في هذه المناطق لم تكن راسخة لطرف فصائلي محدد بل متبدلة. إذ يسعى كل من امتلك القوة والدعم الخارجي أن يحوزها لنفسه، وهذا ما أكدته داعش سابقاً وكذلك جبهة النصرة بتسمياتها المختلفة عبر جمعها السلاح من الفصائل الأخرى وتفكيكها له، وهو ليس فعلاً مبني على جوهر مؤامراتي، بل هو قائم أصلاً في بنية تكوين أي فصيل مسلح، معتدلاً كان أم متطرفاً، يسارياً كان أم يمينياً! وعملية الاستئثار التي تجري ضمن هذا السياق لم ولن تكون سوى عملية إقصائية، ستؤدي في المحصلة إلى طرد فئات واسعة من الفاعلين عن صياغة القرار العام.
وقد تؤدي أيضاً إلى ممارسات قاسية كالسجن والاعتقال وقد تتطور إلى الإعدامات وهذا فعلياً ما جرى في أغلب المناطق التي سيطرت عليها الفصائل المسلحة!
النظام بدوره كان يدرك أن الخطر الذي سيهدده ليس سيطرة فئات مسلحة (أياً كان شكلها أو طبيعتها) على مناطق خرجت من سيطرته، بل هو قدرة هذه المناطق على بناء حياة حقيقية تتوفر فيها كل مقومات الصمود والبناء بعيداً عن منظومة الفساد التي فرضها على السوريين طيلة نصف قرن مضى.
لهذا كان مشروعه للحل عسكرياً دموياً تدميرياً منذ البداية، وكان يدرك أن إجرامه بحق الإسلاميين تاريخياً سيجعلهم أسرى للانتقام منه، مبعدين من أمام طريقهم الحيثيات المحلية والراهنة في الإطار المناطقي، متجهين إلى جعل حراكهم فاعلاً تحت شعارات تبدو في الزمن الحالي أيديولوجية أكثر منها سياسية واقعية أو براغماتية!
وهكذا ستصبح أهداف الثورة غير متطابقة لدى الفاعلين فيها، ما أدى في المجمل إلى حصول تباين شاسع بين فئات الثائرين في الرؤى والأهداف ونمط التفكير. وبينما كانت الشعارات ثابتة في العلن، كان جوهرها يتبدل، فلكل فصيل أهدافه الخاصة التي تنشدها ثورته! وحين يقال إن الثورة السورية صارت ثورات متعددة، ابتعد أكثرها عن منطلقها الأول، فإن هذا القول لا يجافي الحقيقة، لا بل إنه يبدو الأمر الأكثر منطقية في كل ما جرى!
سياسة الارتهان للأطراف الإقليمية والدولية، والتي تساوى فيها النظام مع غالبية الفصائل، مع استثناء الثائرين الأوائل الذين تحولوا فعلياً لسياق رمزي معنوي يساهم في إبقاء فكرة الثورة راهنة ومستمرة. تجعلنا لا نحيل الواقع الراهن بكل تبعاته إلى الجانب الذاتي في تكوين القوى الفاعلة على الأرض السورية، بل إنها تضعنا أمام حالة موضوعية عامة حكمت علاقة القوى الدولية كلها بالمسألة السورية، خاصة وأن الصراعات البينية بين دول الإقليم ولا سيما إسرائيل وإيران وتركيا ودول الخليج انتقلت ومنذ الأيام الأولى للثورة لتحل في المشهد السوري! حتى إن قصص تشكيل مؤسسات المعارضة، من المجلس الوطني إلى الائتلاف السوري، وغيرها من المؤسسات، امتلأت بالتدخلات وبالصراعات الخارجية المسيئة لجوهر الثورة، فحولت القوى السياسية المعارضة التي يجب أن تمثل حراكاً شعبياً يهدف لإحلال الدولة المدنية الديموقراطية بدلاً من نظام الاستبداد، إلى قوى سياسية مرتهنة، مارست دور الوكالة عن غيرها بإرادتها ودون إرادتها.
إذ لا يستطيع أحد أن ينجو من مسار القطيع الذي رسمته القوى المتنفذة بالملف! وما ينطبق على المعارضة السياسية، وعلى النظام، جرى أيضاً على الفصائل المسلحة، ما أدى في المحصلة إلى مشهد مغلق، لا يمكن لأحد أن ينجو من أسره!
هذا بالضبط هو جوهر الحالة السوداوية التي حكمت عقول السوريين طيلة السنوات الماضية، والتي تجلت عبر أداء قاصر في غالبية الملفات، فصار الفشل حالة جماعية مستدامة، بينما كان النجاح فردياً، لا يظهر في ضباب المشهد وقتامته! وضمن هذا السياق هل كان من الممكن أن ينجح السوريون في البقاء على أرض أخرجوها من سيطرة الاستبداد؟
لقد بذلوا الدماء والحيوات في سبيل ذلك، ولكنهم فشلوا في أن يمنعوه من إعادة التشكل وفق أشكال ظهرت بين ظهرانيهم، فظلوا يدفعون أثمان ما فعلوا، حتى وصلوا إلى لحظة التشظي هذه!
وإلى أن يعيدوا إنتاج ثورتهم مرة أخرى، سيبقى السوريون عنوان أكبر المآسي، وأبرز الشعوب التي غدر بها العالم كله!
المصدر: موقع تلفزيون سوريا