منذ أن أطلقت شبكة نتفليكس مسلسلها “الجاسوس” عن قصة إيلياهو كوهين، الجاسوس الأشهر في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، تدافعت القنوات الإعلامية العربية من أجل تقديم أعمالٍ وثائقية، تحاول الإحاطة بالقصة ذاتها، لكن من بؤر سردية مختلفة، تحمل في بعضها الرد على الأسطرة التي أطرت قصة كوهين لزمن طويل على يد الإعلام الإسرائيلي، والعالمي، وبعض من الصحافة العربية المعادية لبعثيي دمشق آنذاك!
وتحاول أيضاً أن تضع التفصيل التاريخي الخاص بعلاقة كوهين بالضباط السوريين الذين حكموا سورياً آنذاك، ضمن سياق تاريخ البلد ذاته، إذ يفترضُ منطق سائد أن تدمير سوريا الحالي على أيدي الأسديين غير بعيد من مهمة كوهين، حيث أنها لم تعد مقتصرة على ملاحقة الضباط النازيين المتوارين في دمشق، بل إنها توسعت وتعدلت لتصبح نسج علاقة ما بين البعثيين وإسرائيل، فجَرَت فيها مياه كثيرة، وأصابها ما أصابها، حتى نهاية بطلها على حبل المشنقة في ساحة المرجة!
وضمن هذا السياق سيتركز الانتباه كثيراً على فيلم (الجاسوس 88) الذي كتبه الروائي إبراهيم الجبين، وأنتجه “التلفزيون العربي” العام 2020. وفيلم (لغز المحارب 88) الذي قدمته قناة “الجزيرة”، وعرضته بعد الفيلم الأول بفترة وجيزة، فظهر وكأنه صدى له، ومحاولة للحاق به، من خلال التشابهات في المنحى والسياق، وليس في العنوان فقط.
الانهمام العالمي بالقصة والذي قيلت ضمنه شهادات كثيرة لأشخاص عايشوا التفاصيل، وكان بعضهم مساهماً فيها، لم يحفز النظام السوري، لأن يقدم رواية رسمية عما جرى في الفترة بين العامين 1962 (تاريخ وصول كوهين إلى دمشق) و1965 (تاريخ إعدامه)، فلم تظهر في الإعلام السوري الرسمي أي تفاصيل عن القصة، رغم أن كل عناصرها متوافرة في أرشيف التلفزيون السوري الذي كان يبث وقائع محاكمة كوهين على الهواء مباشرة، كما يحتوي أرشيف إذاعة دمشق على لقاء معه، بوصفه المغترب السوري كامل أمين ثابت (الشخصية الوهمية التي انتحلها ليعيش في سوريا) إضافة إلى مئات الوثائق المتوافرة في أرشيف الصحافة السورية الورقية وحدها. هذا في حال لم تفتح الأجهزة الأمنية خزائن وثائقها، للكشف عن المسكوت عنه، في هذه الحكاية التي شغلت السوريين والإسرائيليين والعالم بأسره حتى الآن! وطبعاً لن ننسى محاولة عدد من الأشخاص تتبع القصة في أرضها، والكتابة عنها، مثل السوري سليمان المدني الذي أصدر كتاب “محاكمة كوهين الجاسوس الإسرائيلي في دمشق” العام 1995.
وتبقى الشهادة شبه الرسمية الأهم هي الشهادة التي أصدرها اللواء المتقاعد صلاح الضللي الذي تولى رئاسة محكمة كوهين، ككتاب حمل عنوان “حقائق لم تنشر عن الجاسوس الصهيوني ايلي كوهين وقصته الحقيقية”.
الوليمة الشهية حول جثة الماضي المبهمة، مازالت حتى اليوم تحفز آخرين للانضمام إليها، حتى وإن كان أسلوبهم هو عصر الهواء من أجل خلق الأسباب الموجبة للمشاركة.
وهكذا، ستحاول قناة “روسيا اليوم” الناطقة بالإنكليزية توسيع مساحة لروسيا السوفياتية ضمن الحكاية، بعيداً مما هو معروف من دور لسيارة الرصد الروسية في التقاط إشارات بث، كان يطلقها كوهين من شقته في منطقة المالكي بدمشق، فلا تجد قناة البروباغندا الروسية الأشهر من سبيل لذلك سوى اختراع التاريخ، في فيلمها الذي تم بثه قبل أيام باللغة الإنكليزية بعنوان (Mysterious Film of Eli Cohen and the Syrian Spy Games in the ’60s).
فهي تبدأ حكاية الفيلم “المثيرة” من العثور على فيلم سينمائي في متجر للأنتيكات في مدينة سان بطرسبورغ، سيكتشف منتجو الفيلم أنه من تصوير الصحافي بوريس بوكين، الذي عمل في دمشق في الفترة ذاتها لأحداث قصة كوهين.
إلى هنا يبدو الأمر طبيعياً، فسوريا المضطربة آنذاك كانت فضاءً مفتوحاً للصحافيين من كل حدب وصوب، الذين وجدوا في ما يجري فيها مساحة لاقتناص القصص والتقارير، وكان من الطبيعي أن تلجأ أجهزة الاستخبارات العالمية إلى إلباس عملائها شخصيات الصحافيين كي تبرر وجودهم في المدينة التي كانت تمضي شيئاً فشيئاً في معاداة الغرب “المتآمر على قضية العرب وفلسطين” وتقترب أكثر فأكثر من السوفيات الذين كانوا من الداعمين للأنظمة العربية “الثورجية”.
لكن الشيء غير الطبيعي هو أن يتوقف صناع الفيلم عند شخص يعبر شارع 29 أيار وسط دمشق في ثوانٍ معدودة، فيرون في ملامحه الجاسوس الإسرائيلي إيلياهو كوهين! فيبنون فيلمهم كله على هذا “الاكتشاف” غير المدقق، والذي لا يحتاج خبراء كي يتم نقضه، أو التشكيك فيه، بوصفه مجرد افتراض، يحتاج الكثير من القرائن من أجل إثباته، والمغامرة بطرحه أمام الرأي العام!
كانت قصة الشبه بين كوهين وآخرين من سوريا ومن منطقة الشرق الأوسط، أثناء محاكمته، جزءاً من الجدل الشعبي الذي رافق الحملة الإسرائيلية العالمية من أجل إطلاق سراحه، والتي لم ينصع قادة دمشق البعثيين لها، لا سيما أن ملامحه الشرقية لم تخف على أحد، غير أن تاريخ عائلة كوهين ذات الأصول العربية (وبحسب المصادر الإسرائيلية ذاتها) كان واضحاً وليس غائباً، حتى أن الضللي ذاته كان يظن، موقناً، في كتابه بأن كوهين على علاقة (ربما قرابة) مع تاجر يهودي عاش في دير الزور (مدينة الضللي) وهرب منها بعد أحداث النكبة في 1948 بعد تظاهرات محلية اعتدى المتظاهرون فيها على متجره!
فإذا ما تم وضع مثل هذه الحقيقة أمام عيني أي صحافي مدقق، فإنه لا بد سيتردد ألف مرة قبل أن يدعي بأن الشخص الذي يمر أمام الكاميرا هو ذاته كوهين، كما أن تدقيق الملامح ووفق منهج الوصف سيوضح أن ثمة فوارق واضحة بين الشخصيتين، لا سيما الفرق في طول الرأس، وفي استدارته من الخلف، فضلاً عن الفرق بين كتلتي الجسمين، ونوعية الملابس التي توضح انتماء من يعبر الشارع إلى طبيعة عملية يومية، بينما يظهر كوهين في صوره السورية بناء على طبيعة ثيابه أقرب إلى التاجر، أو رجل الأعمال!
وبغض النظر عن هذه التساؤلات المشروعة، هل يكفي أن تلحظ الكاميرا مرور كامل أمين ثابت أمامها، لتكون هذه اللقطة مفتاحاً لصناعة فيلم وثائقي، يدعي تقديم الجديد في السياق؟
المشكلة هنا ليست في أن الفيلم مفبرك، وأن صناعته رديئة وغير مطابقة للتاريخ، لا سيما في مشاهده التمثيلية، ولا يحتوي جديداً من الصور، كما أدعى صنّاعه، فكل صوره قديمة ومكررة ومنتشرة في شبكة الإنترنت، سوى اللقطات المصورة بكاميرا بوريس بوكين، وهي عامة ترصد تفاصيل يومية من حياة السوريين.
وليست في ادعاء الجهة المنتجة أنها صنعت ما لم يصنعه الأولون، فهذا فعل أي منتج/ تاجر يريد بيع بضاعته للجمهور!
بل إنها في محاول الإيحاء بأن كوهين كان مكشوفاً أمام عميل الـ”كي جي بي” الروسي! وهذا أمر لم يسمع به أحد من قبل، ولا وجود لأدلة تثبته، وهو إن صح وجوده، يحتاج إلى وثائق أشد مصداقية، من تقرير رديء، يتضمن لقطة عابرة، لا يُبنى عليها شيء مهم.
وبعد هذا كله، نقول إن المشكلة تكمن أيضاً، في تلقي الصحافة العربية للفيلم، ووضع العناوين البراقة للتقارير المنشورة عنه، من مثل “لماذا كشفت روسيا الآن أسرار الجاسوس إيلي كوهين في دمشق؟”
فالحقيقة التي لن تخفي على أي مدقق، أن لا أسرار ولا من يحزنون في الفيلم الروسي، وأن لقاءً طويلاً مع مؤرخ، هو سيرغي ميدفيدكو، المتخصص في الشؤون العربية، يعيد شرح ظروف الحياة السورية سياسياً وحياتياً، ولا يصنع فيلماً وثائقياً ملفتاً، بل يكشف كسلاً شديداً، وازدراءً لعقول المشاهدين، وافتعالاً للحقائق، وكل هذه صفات لصحافة تدعي أمجاداً، مثل أي جهاز إعلامي في بلد تحكمه الديكتاتورية، والمافيا أيضاً!
*المدن