وضعتُ كل أوراقي (وثائقي الشخصية؛ بطاقة الهوية، جواز السفر، دفتر العائلة، وكل وثائق أفرادها)، في ظرف بريدي، وقمت بإرساله إلى المكتب الفرنسي لحماية اللاجئين وعديمي الجنسية (Ofpra).
وسأنتظر بعد ذلك شهوراً، إلى أن أحضر جلسة المقابلة مع محقق المكتب، حيث سأراه يقلب بينها، ثم يلقي بها في علبة وثائق، طالباً مني أن أودّعها، إذ إنها وبمجرد حصولي على حق اللجوء، أو الحماية في فرنسا، ستصبح جزءاً من أرشيف المكتب، وسأمتلك أوراقاً فرنسية مقابلة لها، تكفل لي حرية الحركة، في كل أوروبا، والعديد من دول العالم، ولن أكون خائفاً إن فقدت واحدة منها، أو حتى إن فقدتها كلها!
لم أكن في البداية مرتاحاً للفكرة، لكنني مع الوقت، سأجد أنني لم أغير عاداتي، ومازلت سورياً، بكامل همومه، ومشاقه، وآماله وأحلامه وآلامه أيضاً!
لكنني، وكلما مر معي شيء يخص الهوية السورية، أستعيد تاريخاً كاملاً من الأسى، والأذى النفسي، أستطيع أن أعممه على كل أبناء جلدتي!
وأنا هنا لا أتحدث عن مفهوم الهوية الوطنية السورية، التي يتم نقاشها حالياً في صالونات المثقفين المعارضين السوريين، بل أتحدث عن تلك البطاقة البلاستيكية، باهتة الألوان، التي صارت عنواناً لشقاء السوريين منذ عقود!
وقد أعاد إقرار مجلس الشعب التابع للنظام، قانون أحوال مدنياً جديداً منذ يومين، إلى الواجهة، كل نبضات ذاكرتي السوداء، وأيضاً هواجس السوريين وقلقهم من محاولات الأسد ونظامه الالتفاف على حقوقهم، وسرقة أملاكهم، عبر حرمانهم من هويتهم السورية.
حيث لفت الانتباه تداول مادة من مواده على مواقع وصفحات التواصل الاجتماعي، تطلب ممن تنتهي مدة صلاحية بطاقاتهم الشخصية (الهوية) تجديدها ضمن فترة محددة.
ووفقاً للمادة /54/ للقانون الجديد “تُحدد مدة سريان البطاقة الشخصية بعشر سنوات من تاريخ صدورها وعلى صاحبها أن يتقدم بطلب تبديلها خلال مدة لا تقل عن 30 يوماً ولا تزيد على ستة أشهر قبل انتهاء مدتها ويجوز تمديد سريان البطاقة لظروف وأسباب قاهرة بموجب قرار من وزير الداخلية”.
بعض القانونيين الذين تمت العودة إليهم صحفياً لتفسير المادة، أشاروا إلى أن نص المادة قديم، ولا جديد فيه يدعو إلى القلق، ولا سيما من السوريين الذين يعيشون في بلدان اللجوء حول العالم!
غير أن السياق العام للهواجس السورية، لم يتوقف عن إعادة طرح الموضوع، ووضع الخطوط الحمراء تحت فقراته!
فالقانون الذي يُصدره النظام، حتى وإن كان يتعلق بأحجار الرصيف، لن يمر على السوريين المعذبين في أرضهم، وفي حيواتهم ومصائرهم، بسببه، دون أن يروا فيه خطوة أخرى من خطوات مسيرتهم الدامية طيلة عشر سنوات ماضية، ساروا فيها على الزجاج المكسور، في شوارع مدنهم وبلداتهم وقراهم، وعلى الأشواك في الدروب، وهم يفرون من الموت، على يد جيش الأسد وقطعان الميليشيات الطائفية المتحالفة معه!
على هامش هذا الفزع من خسارة بطاقة الهوية، يمكن للاجئين وكاتب هذه السطور منهم، أن يتذكروا محطات قاسية، عاشوا تفاصيلها، من خلال ارتباط وجودهم، ببطاقاتهم الشخصية!
إذ لم تكد تمضي الثورة السلمية في مسارها اليومي الذي تحدى قدرة النظام على سحقها، حتى نادى الشيخ عدنان العرعور، نداءه الشهير، بكسر بطاقات الهوية البلاستيكية، كتعبير عن رفض أصحابها للنظام وتحكمه بهم، ورغم أن عدداً قليلاً من الشباب قد نفذ فحوى الكلام، إلا أن موجة كبيرة من تكسير الهويات، حدثت على يد رجال النظام أنفسهم، ولاسيما على الحواجز، أو في الدوائر التي يجب على السوريين أن يتركوا فيها هوياتهم بين أيدي رجال الأمن، ويرجح كثيرون ممن تعرضوا لمثل هذه الحالات أن الهدف كان هو دفع سكان المناطق الثائرة إلى فخاخ رجال الأمن، حيث يمكن ابتزازهم، مقابل السكوت عن وضع الهوية المكسورة، بعد أن أُعتبر صاحب كل واحدة منها ثائراً، أو متعاطفاً مع الثورة، “عرعوري” الهوى!
أتذكر أنني شخصياً قدمت في شهر آب من العام 2011 على طلب لوثيقة (لا حكم عليه)، تاركاً هويتي الشخصية السليمة، لدى مركز الأمن الجنائي في ساحة الجمارك، فحصلت على الورقة التي تثبت خلو سجلي الجنائي، لكنني، ومنذ ذلك الوقت أمسيت أمشي بهوية “مشعورة” شبه مكسورة! استطعت بمعونة بعض الخبراء إلصاقها، بحيث لا يظهر الخراب الذي أصابها بسهولة في يد رجال الحواجز، لكن الخوف الذي كان يتملكني عند كل حاجزٍ أو سيطرة، كان وحده، ودون غيره، يكفيني لأدرك أي مصيبة يعيشها السوريون، بسبب القطعة البلاستيكية، التي تدل على هويتهم!
المسألة لم تكن تتعلق بارتجالات العرعور ذاته، بل كانت مرتبطة بالسياسة التي اتبعها النظام لتدمير الثورة، والتي كانت بطاقة الهوية واحدة من أدواتها العنيفة البشعة، إذ شهدت مناطق كثيرة تصفيات دموية للناشطين على الحواجز، بناء على انتمائهم المناطقي، أي “على الهوية” كما هو شائع في السياق الحياتي اليومي، وإلى اللحظة، مازال كثيرون يعتقدون، بأن الباركود في أسفل البطاقة، يتضمن معلوماتٍ، تكشف ليس فقط الانتماء المحلي لصاحبها، بل أيضاً انتماءه الطائفي أيضاً!
في بلدان المنافي، القريبة منها والبعيدة، حيث يفترضُ المرء أن صفة اللاجئ قد أمست هي هويته، التي تعرف به، وتحميه أيضاً وفق المواثيق الإنسانية، والأعراف والمعاهدات الدولية، يكتشف السوري أنه مازال بحاجة لهويته، ليس من أجل أن تثبت أمام الآخرين اسمه، واسمي والديه، ومكان وتاريخ ولادته، بل من أجل أن يثبت عدم كونه مؤذياً للآخرين، وأن سجله لا يتضمن علاقة مع الجماعات الجهادية الإرهابية!
وبسبب تعقّد المعادلة أمام أي سوري هارب من وطنه، حيث لا يستطيع أن يثبت حسن سلوكه، صارت الهوية السورية نقمة على أصحابها، بعد أن باتوا هدفاً لانتقام نظام الأسد، الذي قام في لحظة ما بإبلاغ الإنتربول الدولي عن عشرات الآلاف من وثائق السفر النظامية، التي يمتلكها معارضوه، بحجة أنها مسروقة، وأن من يحملونها هم أعضاء في تنظيم داعش!
وبعد أن بات تزوير الهويات والبطاقات في المناطق الحدودية الخارجة عن سيطرة النظام تجارة سارية، يستخدم المزورون فيها بحق وبغير حق قدرتهم على صناعة الهويات، والوثائق الأخرى في سبيل الكسب المادي، بعد أن تم الترويج لها على أنها لمساعدة السوريين الذين حرمهم الأسد من وثائقهم! ما أدى في المحصلة إلى وضع كل الوثائق السورية، تحت بند “المشكوك بصحتها”، الأمر الذي جعل حياة السوريين في الخارج تصبح أشد صعوبة، مع فقدان القدرة على تصديق أو وثيقة في مؤسسات النظام!
يتحدث سوريون عن أوضاع وثائقهم فيقولون:
في الأردن، كان علينا أن نستعمل بطاقة تعريف أمني ورقية بيضاء كتب عليها الاسم وتاريخ دخول البلاد، مع صورة شخصية مشوهة، مع الاحتفاظ بهويتنا السورية لإبرازها عند الحاجة!
وفي لبنان، لم يكن الوضع بأفضل حالاً، خاصة أن السوريين، ليسوا بحاجة للوثيقة الشخصية لإثبات الوصمة التي يلصقها بهم عنصريو البلاد، عابرو الطوائف، مؤيدو الأسد!
وفي تركيا، التي يحوز مئات الآلاف من السوريين فيها بطاقةَ “الكيملك” التي يحتاجون للحصول عليها، التعريف بأنفسهم عبر ترجمة هوياتهم السورية إلى اللغة التركية، وبالتالي لن يكون هؤلاء بحاجة لها مرة أخرى، إلا إن احتاجوا التسجيل في الجامعات أو غيرها.
لكن ملايين من أشقائهم سيحتاجون ليس للهويات الشخصية السورية فقط، بل إلى جوازات السفر، كي يتمكنوا من الحصول على (أو تجديد بطاقات) الإقامة السياحية، التي تضمن لحامليها شروط إقامة أفضل. حيث يمكنهم السفر خارج تركيا والعودة إليها دون مشكلات، جوازاتٌ يضطر السوري لأن يدفع أموالاً باهظة (400-800$) من أجل الحصول عليها، ولمدة زمنية محدودة (عامان ونصف).
لقد حول النظام علاقة السوريين بوثائقهم الشخصية، وفي مقدمتها بطاقات هوياتهم، فصارت بدلاً من أن تكون دلالة الانتماء الوطني وإثباته، إلى دليل الاتهام، الذي يجب أن يحتفظ المرء به مرغماً، محاولاً أن يتخلص منه في أول فرصة سانحة.
وهكذا صارت هويات السوريين جميعاً متكسرة، ومتشظية إلى عشرات الأجزاء التي تجرح أعماقهم، وتعكس تهشم دواخلهم! فلا ينفع معها تجبير هنا، أو تطبيب هناك، فما دامت البلاد تحت أسر الأسد ونظامه، قد ينفع الرحيل عنها قليلاً، ولكن الحقيقة تقول مع بقاء الطغيان لا دواء، ولا شفاء!
*تلفزيون سوريا