علي سفر: “قفص السكر”لزينة القهوجي: سوريون في زوايا العتمة المخفية

0

لا يظهر لمُشاهد فيلم “قفص السكر” للسورية زينة القهوجي، الزمن الذي تجري فيه التفاصيل الذي التقطت فيه، فهنا، في الإيقاع “المنزلي”، الذي يوصف عادة بالبطء، ويتم تثبيت الانتقالات فيه عبر تتبع الطقس والأحوال الجوية من النوافذ، لا يصادفنا أي حدث فعلي، طيلة ربع ساعة من مدة الفيلم (60 دقيقة).
بل ثمة حشد من العناصر التي تشرح ما يجري، في عمق السكون؛ الأب (وليد القهوجي) يحاول إصلاح أدوات كهربائية وميكانيكية، أو لعله يستدركها قبل أن تخرب، والأم (إلهام) تقضي الوقت بالاستماع إلى نشرات الأخبار، والعواجل الصادرة من إذاعة (شام FM) الدمشقية.

نفهم من حديث ساكني البيت اللذين تصورهما ابنتهما حجم ما يعانيان، حيث تغيب الكهرباء وتلحقها الماء، فإذا حضرت إحداهما غابت الأخرى، وبما يجعل من الحصول عليهما معاً صعباً، الأمر الذي يؤدي إلى تكاثف إيقاع صعوبات الحياة حيث يعيشان.

المسافة الزمنية التي يقطعها وليد وإلهام في تجاورهما معاً، تحت رصد الكاميرا، وبحسب التقاط العلامات من خلال الأخبار، تبدأ ربما منذ صيف عام 2013، وتنتهي بعيد بداية عام 2019، حيث تغادر زينة مخرجة الفيلم دمشق إلى حياة أخرى، لا نعلم عنها كمشاهدين شيئاً سوى أنها قد أعادت صياغة ما صورته، لتقدمه على شكل هذا الفيلم.

يبدأ الفيلم بلقطة موحية لطيور (أبي سعد) المهاجرة وهي تحلق بشكل دائري فوق جرود جبلية قاحلة، تتحدث زينة مع والدها عنها، وتقول له أنها تفاءلت برؤيتها، فيشعر المشاهد أن ما سيأتي سيكون موغلاً في إظهار كوامن هذا التصحر، لكن شيئاً من هذا لا يحدث، فالأسئلة التي تتأتى من تتبع الحدث السوري الذي يجري خارج البيت، لا تبدو مهمة لأحد، لهذا لن يفلح التفكير في أي جهة تجلس هذه العائلة، وأيضاً لن يهتم أحد بكون الزوجة تُبقي على الإذاعة الموالية حاضرة أمامها، لتعرف منها ما يجري حولها، وحتى حين تصرح بأن العساكر الذي تحيق بهم الأخطار لا ذنب لهم، فهم “تحت حكم”، بمعنى أنهم مأمورون، لا يملكون حولاً ولا قوة!

الخط الأساسي، وربما الوحيد، الذي تتولد منه الالتماعات الذهنية، ينطلق من الكثافة الزمنية التي تتراكم في الداخل البطيء، مع شخصين، يحاولان ألا تصرفهما عبثية ما يجري في الخارج، عن الاهتمام بأمورهما الشخصية، والتي تضمن لهما الاستمرار، من دون الوقوع في فخ الخسارات، وهذه ثيمة تتكرر في المسرح وفي السينما، وفق ثنائية الداخل الذي يمكن للإنسان أن يحتمي به، والخارج الصاخب الذي يتفجر الخوف مما يجري فيه، لكن كيف يمكن لسوريين وجدا نفسيهما في خضم حدث كبير، أن ينفدا بجلديهما، من تبعاته؟

في لحظة ما سنستمع إلى جزء من خطاب حسن نصر الله، وهو يبرر تورط حزب الله في سوريا، لكن الكاميرا وعلى إيقاع الجمل المونوتونية التي ترد فيها أسماء مدن سورية ولبنانية وعدد من دول المنطقة، تنتقل من مشهد لقدمي الثنائي، إلى أجزاء من وجه الأب وهو يدخن، إلى يديه وهو يقشر الثوم، والعودة بعد ذلك إلى لقطة متوسطة تجمعهما أمام النافذة.

وقبل ذلك ستستمر الكاميرا في لقطات ذات إيحاءات تشكيلية مختلفة، وكأننا بصانعة الفيلم قد أنفقت جهداً كبيراً في بحثها عن البؤر المثيرة في المكان، وتلمس الجماليات في المنزل المعتم، في سبيل جعل العلاقات التي تنشأ في وقت قاس، وربما كارثي كهذا، قابلة للاتجاه صوب الإنساني، في مواجهة ما هو غير ذلك!

إنها ليست حربنا

خدم وليد فترة تجنيده الإلزامية بين عامي 1972 و1976، وبحسب الجمل التي اختصر بها حكايته، فقد قضى أربع سنوات على الخطوط الأمامية للجبهة الجنوبية، فمرت عليه حرب 1973، ونجا منها، لتقدمه الكاميرا، بين صورتين أو ثلاثة، تظهر آثار الزمن وقد مر في عقود، صنع خلالها حياة، تشاركه فيها إلهام، التي يحمل وجهها علامات القلق والهلع الصامت، كلما حدث شيء هنا، أو هناك، بحسب ما تنقل الإذاعة.

لكن هذا المقطع الذي يمر سريعاً يؤشر إلى أن العائلة التي تتعايش على مضض مع ما يحدث في الخارج، من قصف متكرر، وانفجارات لسيارات مفخخة، ورشقات أسلحة أوتوماتيكية، تنطلق في الليل البهيم، تبدو وكأنها قد عزلت كينونات أفرادها عن الحرب.

فهما شخصان تقليديان، يعيشان على أطراف مدينتهما، يؤديان ما يوفر لنفسيهما راحتها، مؤمنان من دون تزمت، يعنيهما الوضع في البلد من دون أن يغرقهما فيه، طالما أنهما يحاولان ألا يتورطا في مشاكله، فتراهما يحاولان ثني زينة عن التصوير، الذي سيجلب لها المشاكل، بحسب قول الأب، لكنه يدخل في لحظة ما في لعبة التوثيق دون أن تتملكه.

غير أن اللحظة الأهم في سياق علاقتهما مع كاميرا الفيلم، تأتي من همسهما بينما تمر في مكان ما بعيداً عنهما طائراتٌ مروحية، كعلامة كلاسيكية عن الخوف السوري المزمن، وفي مفارقة ربما تختصر كل القصة!

حرب وليد وإلهام، هي حربهما من أجل ان يستمرا، في تجاورهما الحميم، الذي يمتد من المكوث في عتمة إجبارية، إلى تناولهما الطعام تحت الأنوار الخافتة، إلى قيام الزوج بتحميم زوجته، وبقية التفاصيل من هذه الحياة.

وحربهما أيضاً: أن يؤمنا مقومات حياتهما، حيث يعاود الأب فحص الأدوات الكهربائية، ليكتشف أن ثمة عطباً في حركة غسالة المنزل، يؤدي إلى إصدارها صوتاً غريباً معلناً تلفها، بينما تجادله الزوجة بأن صوت الآلة طبيعي، فتندلع بينهما مناوشة طريفة، سيتكرر حضورها في أجزاء متعددة من كتلة اليوميات الغرائبية التي يعيشانها. إنها جزء من محاولة الحفاظ على الإنساني الذي يحاولان ألا يخسراه أيضاً في “قفص السكر” الخاص بهما.

ثيمة الحياة بلا مقومات

الفيلم الحائز جائزة أفضل فيلم تسجيلي طويل في مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة لهذا العام، لا يقدم نفسه بوصفه وثائقياً ينتمي لسياق الأفلام المكرسة لرصد المأساة السورية، فهو محاولة من ابنة شغوفة بحياة والديها، لتصويرها طيلة سنوات الحرب، بكل ما جرى فيها، ومع الخطوط التي كانت تظهر على وجهيهما، بمرور الوقت.

لكنه، رغم حياديته، يقدم ثيمة لم يتم الاشتغال عليها إلا قليلاً، هي عالم السوريين وحيواتهم اليومية على هامش الحرب التي عصفت بهم طيلة عقد، وماتزال مستمرة بتبعات يومية مدمرة. إذ لم يعد غياب الكهرباء والماء، الذي نراه في الفيلم يتبع مفهوم الأزمة، كما كان يسميها الإعلام الرسمي الحاضر ههنا بقوة، بل صار يتكرس بوصفه علامة على دمار شامل، اعتاده السوريون شيئاً فشيئاً، ولعل تدرج حصوله، غيّبه عن اهتمامات أصحاب الكاميرات الوثائقية، بينما هو فعلياً، جزء أساسي من الحدث العام، يتبعه، ضمن هوامشه، كما أنه في منعكساته على الباقين في سوريا بلا أمل، حدثهم اليومي الذي لا يملكون من خيارات، سوى خوض حربهم معه.

وفقاً لهذا، سيصبح التفكير بالفيلم الوثائقي، الذي يروي وقائع الهامش، بحيثياته وشخصياته، أمراً ملزماً، بالتقابل مع وثائقيات أخرى ركزت كل جهدها لتبحث في حيز الثورة والحصار، والمجازر والتهجير واللجوء!

من دون أن يكون لهذا الأمر من معنى أو مؤدى، سوى أن العدالة الأخلاقية تقتضي إظهار ما يجري في البقع المعتمة، وحيوات شخصيات غير تراجيدية، تجد دائماً أن شؤون وجودها حافلة بما يستحق أن تحكي عنه وتروي.

(المدن)