يميلُ بعض السياسيين الذين ينتمون إلى محور المقاومة والممانعة إلى تحميل ثورات الربيع العربي المسؤولية عن تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية. وفي فحوى هذا النزوع الذي ينطق به مثقفون وفئات أخرى أيضاً، يسمع المرء ويقرأ عرائض شتّى، كتب أصحابها فيها كلاماً كثيراً، أن المشكلات التي أحدثتها الانتفاضات الجماهيرية للبلدان التي اندلعت فيها جعلت طاقات هذه الانتفاضات تتوجه كلياً صوب الشأن الداخلي، تاركة خلفها أي ملفات خارجية. ويقول بعض هؤلاء إن فداحة ما صنعته الثورات من شروخ في المجتمعات جعلت الأوضاع غير المستقرّة مثل جروح مفتوحة تسرّبت منها الجراثيم والميكروبات التي أضعفت الكيانات العربية، وجعلتها تهرع إلى تلمس سبل النجاة، حتى على حساب القضية المركزية!
وفي المحصلة، يرى هؤلاء أن الخاسر الأكبر من عقد الثورات المضطرمة هي قضيتهم التي صارت في المراتب الخلفية من جداول الاهتمامات. ومن أجل أن تعود فلسطين إلى الواجهة، يجب أن تهدأ الأحوال، وألا تبقى على سطح الواقع العربي أي اضطرابات يمكن أن تُضعف موقف الأنظمة العربية وسياساتها، مع افتراض مسبق إن نيات القادة العرب الصادقة تتوجّه قلباً وقالباً صوب مأساة اللاجئين الفلسطينيين، وإلى تلمّس الحلول التي ترفع المعاناة عنهم!
يعيش هؤلاء، ومن يذهب مذهبهم، في انفصال هائل، ليس عن واقع شعوب المنطقة وعلاقاتها تاريخياً مع الأنظمة التي حكمتها، بل عن واقع مأساتهم ذاتها، إذ يغيب الإحساس التلقائي بتاريخها، وهو شيءٌ صار يولد مع الأطفال، ويسكن في دمهم، فيخبرهم أن أهم العوامل التي أدّت إلى تقهقر القضية ومطالب الشعب الفلسطيني التاريخية، إنما هو سوء تعاطي الحكام العرب، ورؤيتهم إلى المسألة جزءا من تضاعيف علاقتهم مع القوى الدولية المتحكّمة بكل الملفات حول العالم!
هذه بديهيات، لا يمكن أن يستطرد المرء في الحديث عنها وشرحها. وبدلاً من هذا، يجب أن توجه إلى هؤلاء دعوة إلى قراءة كتب التاريخ القريب، كي يدركوا أن العلاقة الجدلية بين الشؤون الداخلية العربية، سيما الخاصة ببلدان الطوق، وفلسطين أوضح من أن تخفى. وتبعاً لهذا، سيكتشفون في حال كانوا من أصحاب العقول المنفتحة أن تراجع الاهتمام بالقضية لا يتعلق أولاً بمن هم خارج حدود مأساتها، بل بمن هم غارقون فيها، أي الفلسطينيين أنفسهم، وأن الواقع الذي يعيشون فيه، ولا سيما صراعات القوتين الرئيسيتين، حركتي فتح وحماس، بالإضافة إلى تكريس كل منهما واقعاً متردّياً وبيئة فاسدة في مناطق السيطرة والنفوذ، إنما هو إعادة إنتاج لواقع الأنظمة العربية التي حكمت بلدانها وما زالت، والتي لا يناسبها حال فلسطيني أكثر من الراهن، الذي يشبه تكوينها نفسه؛ أي نخب سياسية واقتصادية وأمنية حاكمة تستعين بقوى خارجية، من أجل تكريس وجودها واستمراريته، في مواجهة شرائح مجتمعية، صار من اليقينيّ بالنسبة لها أن وجود التسلط أكبر معوق لتطورها ولنضالها من أجل حقوقها.
وفي تأمل هذا التقابل بين المشهد الفلسطيني ومثيله العربي، يمكن العودة إلى سلسلة من محطات نضال الفلسطينيين أنفسهم ضد واقعهم المركّب، فنضالهم ضد الاحتلال يتراكب مع نضالهم ضد سلطات الأمر الواقع، التي تتعيّش من العلاقة معه أو من مواجهته، من دون أن تذهب أيٌّ من هاتين السلطتين نحو الجماهير ذاتها، التي يتردّى أي مشروع في غيابها وصمتها الإجباريين بفعل القمع والترهيب والتجويع، وينهض، في المقابل، أي مشروع تتبنّاه وتنفتح عليه، من بوابة قدرتها على الفعل والتغيير، ومن تحرّرها من أي قيادة تمثل مصالح هذه الفئة أو تلك من مافيات الفساد!
وفي العودة إلى أساس السوء فيما يظنّه أصحاب الشكاوى ضد الربيع العربي، لا بد من التذكير بأن الجروح التي تتسرّب منها فيروسات خلخلة الإرادة المحلية الداعمة للشعب الفلسطيني، لم تنكشف للهواء بسبب الربيع العربي، بل إنها أقدم بكثير من تاريخ حدوثه، لكن ما فعله هذا التفجّر الهائل للغضب كان فقط أنه أظهر طبيعتها المزمنة، وربط بين حصول أصحابها على علاجات تقدم شفاء كاملاً وقدرتهم على مواجهة الحلول البائسة التي فرضت على الفلسطينيين بسبب مخاتلة من ادّعوا أنهم يحمون ظهرهم ونفاقهم.
*ضفة ثالثة