قضيتُ أسبوعاً كاملاً، أتتبع قائمة الأفلام المرشحة لجوائز أوسكار 2021. وعادة ما أفعل مثل هذا الأمر قبيل موعد إعلان نتائج المسابقة التي تقيمها أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة الأمريكية كل عام، لكن غايتي من الأمر الآن بدت مختلفة تمام الاختلاف في تراتبية أولوياتها، عن دوافعي في السنوات الماضية، حيث كنت أشاهد الأفلام لأستمتع بها أولاً، ولمعرفة تطورات وتحولات الفن السابع حول العالم ثانياً.
لكنني وخلال الأيام الفائتة، فعلت ذلك، من أجل رصد مزاج صناعها، والرؤى التي حكمتهم، حيال أمرين كانا ومازالا يؤثران، لا على السينما فحسب، بل على كل النواحي الثقافية والسياسية والاجتماعية فضلاً عن الاقتصادية. وهما؛ وباء كورونا، وتراجع الشعبوية خطوة إلى الوراء بعد خسارة دونالد ترامب للانتخابات الرئاسية الأمريكية!
حصة سكان دول العالم من آثار فيروس كوفيد 19، تبدو مضاعفة، فهم سيعيشون تفاصيلهم الخاصة مرة، وأيضاً تفاصيل ما يجري مع الأمريكيين، مرة أخرى.
فهؤلاء وقد باتوا كمتلقين ومنتجين يتحكمون بأهم صناعات الميديا والفن والثقافة ووسائل التواصل، ومنصاتها، سيتحكم أداؤهم في مواجهة الوباء الذي ضرب العالم كله خلال السنة الفائتة، بردود أفعال الآخرين، وسيختصرها، لتكون مجرد حدث ما في مكان ما.
بينما سيبدو الكوكب كله، بعزلة سكانه، وتبعثر أحلامهم، ومعاناتهم، ومحاولاتهم للنهوض بعد الانتكاسة الكبيرة والمروعة لعملية التواصل البشري المادي والمحسوس، وكأنه بطل في أحد الأفلام الهوليودية التي تعرض على الشاشات السينمائية الافتراضية، بعد أن أغلقت دور السينما في كل مكان!
أو بطل آخر في فيلم مصنوع في أحد البلدان شرقاً أو غرباً، لكن أصحابه يدركون أن مجرد وصولهم إلى المنصة الفيلمية الأهم أي (ترشيحات الأوسكار) سيعني الوصول إلى العالمية الحقيقية!
وبعيداً عن التأويل المبالغ فيه، الذي يُحمّل للتفاصيل البسيطة الراهنة، أبعاداً ذهنية وفكرية معقدة، سنجد أنفسنا في دهشة حقيقية، ونحن نشاهد أفلاماً مثل “الأب” لفلوريان زيلر، و”ميناري” للي إيزاك تشونغ و”نومالاند” لكلوي تشاو، وأيضاً “جولة أخرى” للدنماركي توماس فينتربرغ!
فكل هذه الحصص السينمائية عالية المتعة، تؤشر في خطابها ومحتواه إلى مقاومة العزلة، وتدفع إلى مواجهة آثارها الموجعة، وقبل كل شيء تفترض أن آثارها القاتلة على الصعيد الإنساني كارثية، وعابرة للحواجز، إذ يكون فهم الآخر واحداً من أدوات النجاة من أنشوطة الوحدة القاتلة!
لا يمكن فهم ما يجري حول العالم من نتائج مرعبة لحدوث وباء كورونا، من خلال أفلام الرعب التجارية، التي تتعاطى مع الجائحة كمجزرة يرتكبها قاتل مشخص ومجهول في آنٍ معاً، فهذا النمط من الأفلام، يرصد فعل إفناء البشر كجماعات هائمة، ويمنح البطولة للقلة الناجية، على أنها وببقائها حية في البيئة التي يموت فيها الجميع، ستكون أمل البشرية جمعاء، حين تمتلك سر البقاء، مثل أي نخبة في الحياة الحقيقية، تتوفر لديها كل أسباب القوة من مال وسلطة!
ولكن، في المقابل، يمكن فهم جزء غير قليل مما يكابده البشر في مثل هذا الطور من مواجهتهم للتحديات على الكوكب، من خلال بعض الأفلام التي تتأمل في عيش الهامشيين، غير المنظورين أمام الكاميرات، والذين لا يمتلكون صفحات أو حسابات على شبكات التواصل الاجتماعي، كالمتقاعدين الفقراء، والآسيويين المهاجرين أمثالهم ممن يواجهون تغول الحياة في العالم الجديد، وكذلك مرضى الذهان، الذين ستتحول عزلتهم العقلية، إلى أخرى أشد تعقيداً وتراكباً مع هواجس الخوف لدى الآخرين، في أوضاع استثنائية كالتي يعيشها الناس حالياً!
وأيضاً يمكن ترميم فاقد المعرفة بأحوال الفئات الأكثر تضرراً، من أفعال الآخرين المؤذية من خلال رؤية أولئك الذين يرفضون أن يرضخوا لأوبئة بشرية كالتحرش، فيقررون السعي وراء الانتقام كما تفعل بطلة فيلم “امرأة شابة واعدة” لإيمرالدا فينيل!
وقبل هذا، بالتأكيد سيكون حضور فيلم التونسية كوثر بن هنية “الرجل الذي باع ظهره” مدخلاً للحديث عن أحوال فئة كبيرة من السوريين الهاربين من المذبحة المستمرة في وطنهم، الذين باتوا الضحية الأكثر حضوراً، للإهمال العالمي، والتجاهل السياسي، ولإفلات المجرمين من العقاب طيلة عشر سنوات!
كما سيعيد الفيلم الفلسطيني القصير “الهدية” للمخرجة فرح النابلسي قضية صناعه، إلى الواجهة، ليس بوصفهم أصحاب القضية الكبرى، المنسية التي يتم تجاهلها دائماً، بل بوصفهم بشراً بسطاء يمتلكون قضية صغيرة، هي حق التنقل والعبور في وطنهم بعد أن جرى تقطيعه بالجدار الفاصل حواجز الجيش الإسرائيلي!
هل يمكن إحالة كل ما سبق إلى آثار وباء كورونا طيلة العام المنصرم؟
أم أن قضايا شاخصة بقوة مثل الاستبداد والتمييز العنصري، والتسلط، يمكن نقل تفاصيل مواجهتها إلى وباء آخر، قاومته فئة كبيرة من الأمريكيين، ويقاوم آخرون ما يشبهه في أوطانهم، هو الشعبوية، وما ينطوي تحتها من تطرف ورفض للآخر، فكان سقوط ترامب، انتصاراً لصناع السينما في هوليوود الذين أعلنوا وطيلة أربع سنوات معاداتهم لسياساته!
مع فيلمين وصلا إلى نهائيات الترشيحات، هما “محاكمة 7 من شيكاغو” لآرون سوركين، و”يهوذا والمسيح الأسود” لشاكا كينغ، وأفلام أخرى حبكت على ذات النول قماشتها، لكنها لم تحصل على مكان لها في ذات القائمة، يمكن تصور أن نخبة واسعة من نخب صناع السينما متعددي المشارب والأهواء، وجدت الطريق معبداً أمامها للذهاب إلى نبش الماضي من أجل رؤية أسباب مآسي الحاضر؛ فكراهية الآخر، وشيطنته، وصولاً إلى قتله لأقل الأسباب، كما حدث مع الأمريكي جورج فلويد الذي مات خنقاً على يد شرطي أمريكي، هي أمور لا تحصل بالمصادفة، بل إنها سياق من الممارسات تم تأسيسه بأفعال مقصودة لعصابة متحكمة!
وهذه الأفلام المهمة، تعيد بسط المسألة أمام الجمهور؛ ترامب ليس سوى نتيجة، وإذا أردتم أن تعرفوا من أين أتى، عليكم أن تروا ماذا حدث في الماضي، مع الضحايا، الذين سقطوا أمام تحكم مافيات التطرف، وسياق إفلاتها من العقاب!
وهكذا، يمكن ربط ما يجري هناك في الولايات المتحدة، مع ما يجري هنا في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك مع أحداث مناطق أخرى حول العالم، وشيئاً فشيئاً سنكتشف أن مزاج السينما، ليس سوى صورة أخرى من صور أمزجتنا الحانقة بصمت، أو الصارخة بغضب! وكأننا -ويا للسخرية – دون أن ندري نعيش في كوكب واحد!!
*تلفزيون سوريا