كتابان فرنسيان صدرا في العام 2003 يصلحان للتعبير عن مسافة راسخة بين الواقع والخيال، أو بالأحرى طريقة التعاطي مع القبيح الواقعي ومحاولات صناعة صورة مغايرة له.
الأول دليل سياحي فرنسي عن سوريا ضمن سياق السلاسل ذات القطع الصغير التي تصدرها دور النشر المعنية لخدمة السائحين (Syrie. Guides Bleus) يذكر في صفحاته الأنيقة المطبوعة على الورق الصقيل (510 صفحة) التفاصيل التي يجب عليهم أن يتابعوها، من الجغرافية إلى الآثار وطبائع البشر في أمكنة تواجدهم، فضلاً عن انتماءاتهم الدينية الدقيقة، إنه يضع الزائر في صورة المكان الذي يقصده بشكل أقرب للواقع من خلال نُبذ صغيرة محددة بعناية فائقة!
والثاني كتاب فني فاره، مولته وطبعته شركة توتال للاستكشاف والإنتاج في سوريا -وفق سياسة غير معلنة اتبعتها الشركات الغربية تاريخياً تقول: نحن نستغل ثرواتكم بالتعاون مع النظام الدموي الذي يحكمكم ودون عوائد تنموية تنعكس عليكم، لكننا نصنع أعمالاً فنية عنكم- يحمل اسم “ألوان سورية” يضم في صفحاته أعمالاً للفنان الفرنسي إيريك أليبير الذي جاء إلى سوريا في وقت ما، ورسم أمكنة كثيرة فيها بأسلوب رائق شفاف وبألوان مائية هادئة، فصنع من المكان المعتاد في السياق اليومي ما هو أكثر وأكبر منه في اللوحات المرسومة!
واليوم تتكرر جزئيات ثنائية القبيح الواقعي والجميل الخيالي في المكان ذاته، ولكن وفق ضرورات خلقتها المعطيات التي أفضت إليها الحالة السورية، حيث يجتهد الإنشاء الترويجي الرسمي في هذه الآونة من أجل صناعة صورة مختلفة عن البلاد المسحوقة بالحرب والقمع والمجازر والإرهاب والمعتقلات والفساد وصراعات الميليشيات، وغير ذلك من حمولة الكارثة.
ومع الاعتقاد الساذج للمؤسسة السياحية بأن أفواجاً من الزائرين سوف تأتي، ولاسيما بعد الانفتاح العربي على نظام الأسد، سنرى صوراً متكررة للأمكنة الأثرية التي تستخدم كأمكنة للعرض الفني، وسيكون من الملف كيف تقوم الماكينة الرئاسية بعرض صور لأسماء الأسد وقد لبست ثوباً أبيض معرّق بزركشة بسيطة وهي تغرق بين الورود الدمشقية! وبإيحاءات البراءة ستكون الإبتسامة التي تعلو محياها عنواناً للمرحلة القادمة، حيث يجب تجميل المشهد، ليصبح كل شيء موحياً، من الشارع الذي تعلو جدران أبنيته خطوط السخام الأسود، وإلى بائع التبغ المهرب الذي يعرض بضاعته في كرتونة قبيحة ويخفي أضعاف ذلك في سترته ذات اللون الخاكي، إلى السيارات التي لا يملك أصحابها القدرة على إصلاح أي من أعطالها أو إزالة آثار حوادثها المتراكمة على بدنها، وصولاً إلى الدمار الذي لحق بالمدن الثائرة، وأيضاً بضواحي دمشق بعد عاصفة النار والقتل والتدمير التي أطلقها النظام وحلفاؤه من أجل استعادة السيطرة عليها، فحتى هذا الدمار، يجب أن تلحق به لمسة من التجميل، ليكون العنوان: “ونحن نصنع خراباً جميلاً أيضاً”!
من جهته، يحاول فصيل (هيئة تحرير الشام) الذي يحوز عسكرياً على محافظ إدلب وبعضاً من المناطق الأخرى أن يتجمل أيضاً ويسعى لأن يحصل على حصته المقبولة من السيطرة المستقرة، بعد أن صار من المؤكد أن حرباً أخرى لن تحصل بينه وبين قوات النظام، فلا أحد يريد أن يرى أمواجاً أخرى من اللاجئين تعبر شمالاً إلى تركيا وأوروبا، بل بات المطلوب هو أن يعبر اللاجئون نحو الجنوب، أي إلى وطنهم، حتى وإن كلف الأمر إجبارهم على فعل ذلك. ومن ضمن ملامح التجمل أن حكومة الإنقاذ أي الواجهة المدنية للفصيل قد بدأت بإصدار جريدتها الرسمية وكأنها تقول للعالم، ها نحن نصبح دولة أيضاً!
يظن المروجون في مقلب النظام، وكذلك في المقالب الأخرى أن العملية الدعائية تبلغ نتائجها المرضية فيما يصنعون، ولاسيما على الصعيد الخارجي الذي يهدف إلى إقناع الأجنبي بالأهلية والقدرة على إدارة المكان المضطرب، لكن قيمة كل هذا بالنسبة للسوريين أنفسهم تبدو صفرية وربما تهوي أدنى من ذلك بكثير!
– لو قلت لأحد ممن شاركوا في ثورة 2011 أننا سننتهي إلى هذا الحال، هل كان سيوافق على الخروج إلى الشارع؟
يسأل السوري الذي زار بلده بعد غياب سنوات قبل أيام وعاد إلى فرنسا حيث إقامته، وينتظر الجواب، لكن الحقيقة تكشف إننا نحتاج إلى ما هو من أكبر من تأمل ملامح ما جرى ويجري في الواقع لكي نفهم السياق والمنتهى، وعلى رأس ما نحتاج هو العودة إلى استكشاف عقولنا وطرق تفكيرنا، بما في ذلك مراجعة الصورة الراسخة فيها عن الأوطان وأحوالها، فالوقت الذي مرّ أفقد السوري الغائب قسراً عن بلده ملامحها! ذاكرته وميكانزماتها لم تعد تعمل بطاقتها كما يجب!
ولأن التركيبة المعقدة للدماغ لا تكشف عن أسرارها، سيكون من الصعب تفسير الآليات التعويضية التي يلجأ لها العقل من أجل إنشاء صورة ممسوكة جيداً عن الماضي، ولاسيما منه، تلك التفاصيل المبهجة، لكن الحقيقية التي تصدمنا بها تفاصيل الواقع ستكشف أن الملمح الأساسي لما نحتفظ به في ذواكرنا عن الأوطان يقوم على المبالغة!
نحن نبالغ في التعبير عن محبتنا، وعن السعادات المنقضية، وعن رغد العيش في الماضي، وطبعاً عن أفعالنا وإنجازاتنا، وبالتأكيد نقلل من أحجام هزائمنا، ونحيل مشاعرنا السلبية بعد وقائع الإذلال الذي مارسه التسلط علينا إلى العسر العام الذي حكم ومازال حياتنا!
المبالغة والتعظيم جزء من تجميلنا لماضينا الذي لا نستطيع التخلص منه، لكننا نقع في الانفصام في الوقت نفسه، حين نحتج في مراجعتنا لخطابنا اليومي على رغبات البسطاء في أن تعود سوريا كما كانت، بالإيضاح لهم بأننا لا نريد لها أن تعود كذلك، لأن الماضي وكذلك الحاضر والمستقبل المقترن بالسيطرة الأسدية يعني الخراب الدائم ولا شيء غيره!
حالتنا صعبة، ونعيش أعراضاً غير مسبوقة، ومثل أي مريض لا يريد من يذكره أحد بمأساته، لكنه يحتاج إلى من يدفعه إلى المسير على القدمين وفي أرض ثابتة، بدلاً من ركوب بساط ريح خيالي، ربما سيكون من المهم للسوري أن يقوم بتصحيح أوصاف الوطن، قبل الموت من أجله أو الشروع في التخلص من حمولته في الذاكرة أيضاً.
*المدن