علي سفر: في رحيل وليد معماري.. الشيوعي المخلص للحزب وللفقراء

0

يمكن اختصار كثير من النعوات التي كُتبت وستكتب عن الصحافي والقاص السوري الراحل وليد معماري بجملة تقول: “رحل المعلم”!
ولعل أكثر ما سيلفت الانتباه أن من يصفون الرجل بأنه كذلك، هم جيل التسعينيات، أي أولئك الذين بدأ تفتح وعيهم في سنوات الثمانينيات، حيث لم يكن من الممكن للسوريين أن يقرأوا على المستوى المحلي سوى صحف ثلاث، هي “الثورة” شبه الحكومية، و”تشرين”، و”البعث” التابعة للحزب الحاكم، إضافة للجرائد الحزبية المسموحة مثل “نضال الشعب” (صوت الشعب لاحقاً) التابعة للحزب الشيوعي-جناح خالد بكداش، والذي كان الراحل ينتمي إليه، وبقي مخلصاً له حتى نهايات عمره.

ضمن هذا المنحى يمكن إدراك أن قيمة وليد معماري التي يمسك بها هذا الجيل، لن تكون ممكنة أو مفهومة للأجيال الأخرى، خصوصاً تلك التي جاءت إلى مساحات الفعالية منذ مطلع الألفية الجديدة، حين اختلف كل شيء، ليس على الشباب فقط، بل على كثيرين من الأجيال السابقة أيضاً. فجريدة “الدومري” التي ظهرت في بداية عهد الأسد الابن، وكان هو واحداً من أركانها، لم تستمر إلا قليلاً، قبل أن تطحنها الماكينة الأمنية، بسبب تجاوزها الخطوط التي رسمها النظام للإعلام، كما أن تتالي الأحداث منذ 11 أيلول 2001، مروراً بغزو العراق، ومقتل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، واعتقال الموقعين على “إعلان دمشق”، كان أسرع بكثير من قدرة “أبو خالد” على اللحاق به. فصار حضوره في الحياة الإعلامية أصغر بكثير من تلك المساحة التي احتلها في وقت سابق، عبر زاويته اليومية “قوس قزح” في جريدة “تشرين”.

كما أن اليوميات السورية غدت أوسع بكثير من البؤر التي كان يركز عليها، في كتابته، إذ صارت القصص الساخرة، مفجعة وكارثية، مع اتساع نطاق الفساد، وتغول رجال الأعمال الشباب، أبناء المسؤولين وحلفائهم، على اقتصاد البلاد، وفجورهم في بلع وازدراد مؤسسات القطاع العام. فضاع صوته الصحافي، وبقيت قصصه الساخرة، التي كرسته كواحد من البارزين في مجاله.

رغم حيازته لسيارة “فولكس فاغن بيتل”، خنفساء، تعلم وليد المشي الهادئ كأسلوب وحيد في التنقل، واشتهر عنه الهدوء والتروي في نشاطه ضمن صفوف حزبه حليف النظام، وكان عضواً في لجنته المركزية.

وربما لم يدُر في خُلده، في أي وقت، أنه سيكون بحاجة لأدوات أفضل، كي يكون حاضراً بين الأجيال الطالعة، كما أنه من غير الممكن بالنسبة له أن يذهب إلى موقف يتعارض مع قناعاته الحزبية، رغم أن عائلته عانت الاعتقال السياسي، إذ غيّب النظام شقيقه مفيد معماري لسنوات بسبب انتمائه إلى الحزب الشيوعي–جناح المكتب السياسي (رياض الترك).

ولهذا لم يبحث أحد عن موقفه خلال الثورة السورية، إذ اتّسم أداؤه دائماً بالابتعاد عن التصريحات السياسية الفجة، كما أن قناعة ضمنية شبه عامة سادت في أوساط الثائرين، كانت تقول: إن أبعد وآخر من سيفكرون بالالتحاق بالثورة، سيكونون هؤلاء الذين عمّروا في مؤسسات حزبية تحالفت مع الأسد الأب في الجبهة الوطنية التقدمية، والتي تروى عنها طرفة سورية شهيرة تقول بأن العبارة المشطوبة في اللافتة التي تدل إلى مبناها، في أول شارع أبي رمانة هي: “لصاحبها حزب البعث العربي الاشتراكي”!

وربما تكون واحدة من اللمعات الشاذة، في طريقة تعبير وليد معماري عن خياراته، أنه كتب قبيل “انتخابات” الرئاسة في 2014، في فايسبوك تحت عنوان “من أجل شمس نعشقها”، أنه سيتوجه إلى صندوق الاقتراع، ليصوّت “لثلاث سنوات ونيّف من الصمود الأسطوري في وجه جحافل ملطخة بالقار والعار.. (و)ضد النازية الجديدة في تل واشنطن، وأذنابها النفطيين المتخلفين المنبطحين، المتوجهين في صلاتهم المخادعة وجهة تعاكس قبلة من يدعون أنه نبيهم.. ولهم قبلتهم المنحرفة، ولي قبلتي التي تبدأ من دمشق الصمود وتنتهي إليها (وحاشا أني أنقض قبلة البيت الحرام)، فهم من نقضها، واتخذ من الشام بيت حرب، ولوث ترابها الطاهر بأسلحة الكفار.. سأصوت بنعم للرمز الذي أراه الأجدر.. الإنسان الأقرب إلى قلبي، وعقلي، وحبي لوطني.. فيما لدي ميل لأكتب خلف ورقة الاقتراع سجلاً حافلاً بمن حصدت أرواحهم جحافل الظلمة والظلام من أحباء خمد النبض في قلوبهم، ومن مخطوفين لا أعرف مصيرهم.. وليس من أمل يسكنني سوى النصر، وسوى هزيمة الظلام والظلاميين، مع ثقة بأنهم سينهزمون أمام عاصفة شمس ستحرقهم عما قريب”!

هذا التصريح فتح على صاحبه بوابة الإدانة، من قبل جمهور الثائرين في شبكات التواصل الاجتماعي، رغم أنه لم يوضح إن كان سيصوت لماهر حجار أي المرشح الذي ينتسب لحزبه نفسه، أم لغيره؟!

لكن مثل هذا الأمر لم يكن ليؤثر في معماري، الذي لم يُرِد ربما أن ينهي سنوات تقاعده بمشقات، أكبر من طاقته، أو أشد وطأة مما اعتاده في سكة السلامة، التي اتبعها ليعبّر عما يفكر فيه.

حظي الراحل بلقاءات صحافية وتلفزيونية شتى خلال سنواته الأخيرة، لكن غالبيتها كانت تظهره وكأنه قادم من زمن غابر، في الوقت الذي تحول فيه السوريون إلى شعب يسكن في شبكات التواصل الاجتماعي، وفي ظل ثورة معلوماتية موازية لثورتهم، جعلت من الكوميديا عموماً والسخرية الصحافية الخفيفة حاضرة في المنشورات التي يطالعونها يومياً. وبغض النظر عن قيمة ما كُتب ويُكتب حتى الآن، فإنه من غير الممكن إنكار تأثير الزوايا الساخرة التي كتبها الراحل، في جعل المفارقة عتبة أساسية في تدوين الزوايا اليومية ذات البُعد المطلبي، من دون اللجوء إلى المفردات الصارخة، التي تستفز أصحاب السلطة والقرار. وفي أسباب نجاح الزاوية في الوصول إلى الجمهور، أجاب في وقت سابق على سؤال للصحافية سعاد جروس حول الأمر، فقال: “الناس تحب نقد السلبيات، وتعرية الخطأ، فإذا قدم هذا النقد وهذه التعرية بروح ساخرة فقد اجتمع عنصران مهمان للنجاح، فإذا أضيف إليهما عنصر الجرأة اكتملت أثافي القدر كما يقال”.

عمل وليد معماري بعد تقاعده على مشروع مجلة شهرية سمّاها “مسارات”، إذ أن فكرة التقاعد بذاتها كانت ترعبه، فقال عنها في اللقاء ذاته: “الفكرة مرعبة، لكن الأكثر رعباً منها هو أن استيقظ ذات يوم وأجد أنني فقدت ملَكة الكتابة، مثلما يفقد المرء النطق، كلما انتهيت من كتابة قصة أرتعب من فكرة أن تكون هذه هي القصة الأخيرة، أي إني أخشى التقاعد الإجباري، والاستكانة إلى عالم الكسل، الكتابة بالنسبة لي أوكسجين للحياة، وسلاحي الوحيد، وهويتي الملتصقة بي”.

لكنه، بعد ثلاث سنوات من إصدار المجلة، اضطر لإقفالها كاتباً في صفحته، صيف العام 2018: “مضى ما يقرب من ثلاث سنوات على إصداري العدد التجريبي (العدد صفر) من مجلة (مسارات) ومن أسف أن المشروع توقف عن الاستمرار لأسباب قاهرة.. أولها التمويل المالي… وعراقيل التوزيع… تضاف إلى هذا عراقيل كانت غير محسوبة.. عراقيل تصلح لأن تكون موضوع فيلم سينمائي من نوع (الأكشن) المضحك المبكي!..”

رحل معماري عن ثمانين عاماً، وقد نعته مؤسسات رسمية سورية، منها صحيفة “تشرين”، وكتب عنه العشرات من زملائه ومن “تلاميذه” ومحبيه في جهتي الصراع السوري.

يذكر أن الراحل، وبحسب وكالة “سانا”، من مواليد دير عطية العام 1941 ويحمل إجازة في الفلسفة والعلوم الاجتماعية من جامعة دمشق، عمل في التدريس ومديراً لمركز إنعاش الريف وصحافياً في جريدة “تشرين”. وهو عضو جمعية القصة والرواية في اتحاد الكتّاب العرب وعضو اتحاد الصحافيين السوريين. شارك في حرب 1973 خلال فترة أداء الخدمة الإلزامية كقائد فصيل. وحاصل على وسام الشجاعة من الدرجة الأولى. كما بدأ العمل في صحيفة تشرين الدمشقية العام 1976 كمخرج فني وكتب ما يزيد على 5000 زاوية صحافية ناقدة وجريئة وساخرة في زاوية “قوس قزح” في الصفحة الأخيرة من صحيفة تشرين “وقد حظيت بشعبية واسعة وكتب ما يزيد على 1200 مادة صحافية في زاوية (آفاق) في الجريدة نفسها، معظمها تناول قضية الدفاع عن لقمة عيش المواطن”. وكان عضواً في هيئة تحرير جريدة “نضال الشعب” ومن ثم “صوت الشعب” الناطقة باسم اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري، ودأب على كتابة زاوية فيها حملت اسم “على السندان”.

صدرت له مجموعات قصصية عديدة، أشهرها على مستوى الانتشار مجموعة “حكاية الرجل الذي رفسه البغل”، كما كتب مجموعات قصصية ومسرحيات للأطفال، وسيناريو فيلم “شيء ما يحترق” للمخرج غسان شميط، وترأس صحيفة “الأسبوع الأدبي” الصادرة عن اتحاد الكتّاب العرب. ونال عدداً من الجوائز، منها الجائزة الأولى في مسابقة اتحاد الكتّاب الخاصة بأعضاء الاتحاد العام 1979، والجائزة الأولى في مسابقة مجلة العربي الكويتية 1996، وجائزة صحيفة “السفير” اللبنانية 2004.

*المدن