من غير المجدي للكاتب وأيضاً للقارئ أن تتم استعادة كل تفاصيل حرب حزيران للعام 1967 لتوضيح أو شرح معنى الهزيمة.
الذين عاشوا الأيام الستة تلك، عندما دحرت القوات الإسرائيلية جيوش ثلاث دول عربية واستولت على مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية والسورية والمصرية، مازالوا ربما حتى اليوم مذهولين ومصدومين بما جرى، خصوصاً أن البروباغندا التي صنعتها الأنظمة الحاكمة عن قوتها وقدرتها على مواجهة الأعداء والتي استندت إلى بلاغة وفخامة ترطن بالمجد والتاريخ، كانت تستطيع إقناع كل الكائنات الحية وليس البشر وحدهم بأن هزيمة الصهيونية، ربيبة الإمبريالية العالمية، واقعة لا محالة، وأن على اللاجئين الفلسطينيين حزم حقائبهم للعودة إلى ديارهم السليبة!
أما الأجيال التي جاءت إلى الدنيا بعد وقوع الحدث، فقد سمعت وقرأت وشاهدت صوراً عنه. هي لم تعشه في زمنه، لكنها فعلياً ورثت هزيمته حتى كادت تتحمل مسؤوليته، وكأنها هي التي صنعته أو على الأقل ساهمت في بعض تفاصيله!
أمور ثلاثة شكلت، طيلة العقود السابقة، الصورة الأكثر تعبيراً عن كارثة حزيران. الأمر الأول، بقاء الأراضي العربية تحت سيطرة الإسرائيليين، سوى سيناء التي انسحبت منها القوات الإسرائيلية بموجب اتفاقية السلام مع مصر، وما يتبع ذلك من بقاء اللاجئين من أصحاب الأرض تائهين في بقاع المعمورة.
أما الأمر الثاني، فهو الصورة التي رسمتها الفنون والآداب في محاولة الفاعلين فيها تحليل وفهم أسباب ما حدث وتبيان أساس المشكلة في أي من مفاصل الحياة العربية! وأخيراً، وهنا بيت الداء، بقاء الأنظمة العربية الحاكمة التي تسببت في كل ما جرى، راسخة وجاثمة على الصدور، بما يحمله هذا الأمر من تعطيل لمسارات التنمية والتطور الشعوب التي تحكمها وإعاقة أيضاً لتملك الأدوات التي تمكنها من استعادة حقوقها!
تأصيل الهزيمة في الذهنية العربية، سياق كامل لم يتوقف منذ نكبة 1948، لكنه تطور منذ السادس من حزيران 1967 بتسارع مخيف، ليدخل كمعنى وكنوابض مؤثرة في كل جزئيات الحياة. غير أن لحظة نزول الأجيال الجديدة، التي رفضت أن يبقى الحال الكارثي على ما هو عليه، إلى الشوارع منذ نهاية العام 2010 في تونس، مطالبة بالحرية والكرامة، كشفت وجهاً آخر للهزيمة قوامه قدرة الأنظمة على مكافحة النزعات التحررية لدى وارثي الهزيمة، ودفعهم شيئاً فشيئاً إلى محرقتها الخاصة، حيث يمكن إشعال الحاضر برمته وتدميره من أجل استمرار السيطرة والتحكم.
كان النظام البعثي في سوريا، بُعيد النكسة، يتشدق إعلامياً بأن إسرائيل هُزمت فعلياً رغم انتصارها العسكري، لأنها لم تستطع تدمير النظام “التقدمي” في دمشق. وعلى المنوال ذاته، تزدرد جوقة الممانعين، من بيروت إلى طهران مروراً بدمشق وبغداد وصنعاء، الأكذوبة ذاتها عندما تحكي عن نصرها على الإرهاب الذي استهدف محورها، وتغض النظر عن الأثمان الفادحة التي تكبدتها الأوطان، ومنها سوريا المنكوبة بنظام الأسد نتيجة سياساته الدموية.
لم تكذب النصوص الأدبية والفنية التي كُتبت عن الحدث، بل كانت تحكي بوضوح عن التسلط بوصفه أساس الاهتراء، لكن تنميط هذه النصوص عبر إلحاقها بالواقعة التاريخية فحسب، وتقليل قيمة الفعل الأدبي والثقافي، وتهميش الفاعلين في هذا السياق، ودفعهم أكثر فأكثر نحو العزلة عن المحيط، كان يؤدي لأن يجد الكاتب نفسه وجهده في حلقة مفرغة، يُنتج فيها نصه الأولي الذي يواجه الهزيمة الكبرى، ومن بعد ذلك يكتشف أن غالبية ما كتبه لاحقاً لعب على الوتر ذاته، أي التضاد مع الهزيمة المغروزة في العمق!
أصدر سعد الله ونوس نصه المبدع “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” في العام 1969، والذي لطالما اعتُبر أنموذجاً للكتابة المسرحية الغاضبة الناقمة على التسلط، لكن العمل الذي لم يقدم كثيراً على الخشبات بسبب مضمونه الذي يسبب المشاكل مع المؤسسات الرسمية، كان مقدمة لسياق كامل، الرد على الهزيمة والبحث عن النوافذ التي تنقل العرب من ظلمتهم إلى أنوار الحضارة والتقدم. وإذا شئنا كقراء أن ندقق في مسارات حيوات النخبة المثقفة التي عملت على صياغة النص المضاد للواقع المكرس بعد 1967، سنجد أن المعادلة القهرية ذاتها تتكرر على نحو تراجيدي، حيث وقع هؤلاء في الآبار القاتمة التي كانت تعترض طريق دعواتهم الثقافية المغايرة!
وإذا كان لا بد من استكشاف ما جرى مع الجسد الإبداعي العام في المنطقة، سنرى كيف فخخ القامعون حيوات المبدعين بالأذى وبالتضييق، فصاروا طرائد تلهث من أجل النجاة إما عبر الرحيل خارج بلادهم، وإما من خلال الصمت والمناورة مع البنى الصلبة للتسلط وأيديولوجياته.
اليوم، وبعد إعلان هزيمة ثورات الربيع العربي، ونجاح الثورات المضادة برعاية أنظمة شرسة، تعود المعادلة السابقة لتستولي على خيارات العاملين في حقول الثقافة والإبداع. فحين تتناسل الهزائم، وفق الأسلوب ذاته، منذ 1948 وحتى الآن، تعاود الحلقة المفرغة دورانها. وفي انتظار معجزة ما على ما يبدو، يحزم كثرٌ حقائبهم، ليرحلوا من الأوطان المهترئة، لينجوا، أو على الأقل ليلتقطوا الأنفاس في انتظار الجولات القادمة، من حروب تحتاج كل أدوات التدبير والعقل والثورة.
*المدن