علي سفر: في السجون مراكز ثقافية: لماذا لا تلقون فيها الشعر؟

0

لا أظنّ أن تحليل أفعال النظام السوري في سجونه يحتاج للاستغراق في قراءة تاريخ السجن كظاهرة، أو العودة، على سبيل المثال لا الحصر، إلى كتاب “المراقبة والعقاب” لميشيل فوكو. فما يجري في السجون السرية، وكذلك في الفروع الأمنية أو السجون المعروفة، كصيدنايا حالياً وتدمر والمزة العسكري سابقاً، لا يجب أن يُقرأ بذاته من زاوية التحليل النفسي أو الاجتماعي، بل يجب أن يتم التركيز عليه من جهة كونه جزءاً من مسار إبادة. ثمة من قرره مسبقاً، ولا يحتاج إلى شيء سوى بعض الاستكمالات من نوع إحالة ملفات المحكومين على محاكم خاصة، كمحكمة الإرهاب، وأيضاً القتل بإحدى الوسائل الممكنة كالإعدام، أو التعذيب، أو أن يترك السجين ليموت من المرض أو الجوع.
هذا كله، بات معروفاً بحكم التجربة عند السوريين، لا بحكم الدراسات والتحليل، وإذا كانت التفاصيل ما زالت تتكرر، فأي منهج، وأي دراسة، ستُلمّ بكل هذا الركام من فوضى ابتذال الكائن البشري؟! الأمر ذاته يمكن أن نسحبه على أي قراءة “متفذلكة”، تحاول تحليل أفعال النظام بناء على ما فعله بعض معارضيه. فبعد مرور 40 سنة على حكم الأسديين، وتراكم النكبات الصغرى والكبرى على كاهل المجتمع السوري، بسبب الإعاقة الهائلة لمسار تطوره التي شكلها هذا النظام، لم يكن ممكناً إيلاء أي أهمية لوجهات النظر التي حاولت وضع الأمور في مسار “منطقي”، يتحدث عن “الفعل وردّ الفعل”، خصوصاً أن هذا الإنشاء الواهن في النقاش، كان وما زال يقوم على تحميل الضحية أوزاراً مساوية لجرائم جلادها!

أفعال الإبادة، التي حدثت منذ بداية الثورة، والتي باتت الأيام الراهنة تنقل كل فترة حكايات غير معروفة منها، تحتاج لمن يحاول تمويهها، وإلى أفعال تخلط حيثياتها، كي يصبح الخوض فيها أمراً مرهقاً، وقابلاً لخطر الوقوع في فخ التضليل. وهذا جزء من استراتيجية عملت عليها روسيا، الحليف الأهم للنظام، لا سيما من خلال خلق شبكة إعلامية في صفحات التواصل الاجتماعي، تدق المسامير في أي قصة تُروى عن جرائمه، وتحاول أن تركز على جرائم الفصائل المسلحة، بل وحتى المنظمات ذات الدور الإنساني (الدفاع المدني/القبعات البيضاء)، بما يصدّر صورة كارثية تقول بأن الجميع هنا مجرمون! وهو الأمر الذي صار واضحاً بعدما أظهرت دراسة “معهد الحوار الاستراتيجي”، المنشورة قبل أيام، الجوهر الفعلي للعنوان الذي سميت به أي “الأثر المميت للتضليل”!

لقد مسحوا الماضي الجميل!
الاجتهاد في إحالة كل شيء إلى “مؤامرة”، لم يكن دائماً أمراً مضحكاً، لقد كان مدخل التشكيك في كل ما حدث في سوريا. فبذريعة ساذجة هي العداء للنظام “الوطني الممانع المقاوم لإسرائيل وللإمبريالية العالمية”، يمكن لجمهور اليسار والمقاومة أن يحيل كل ما يجري إلى مؤامرة “حرب كونية تستهدف سوريا”. وبذريعة محاربة الأسد للإسلاميين، خصوصاً قوى الإسلام السياسي، يمكن للجمهور كارِه هؤلاء، وأيضاً للقوى اليمينية المتطرفة في الدول الأوروبية وغيرها، أن تحيل “الحرب” السورية إلى أفعال التطرف الإسلامي، ما يوجب ضرورة دعم الأسد وجيشه في مواجهة من يحاربهم، ولا بأس من التطوع للقتال إلى جانب قواته!

انعكاسات مثل هذه الذرى في النسيج الثقافي المؤيد، أو الذي يبرر للنظام أفعاله، أو يشكك في سردية المذبحة، أو يلقي بجزء من المسؤولية على المعارضين، يمكن رصدها وتعليبها بوصفها “المنهج المتعارف عليه لبلوغ الحقائق” حول ما جرى في سوريا. في هذا المنهج لا يعرف المثقف بوجود تاريخ سوري قبل نظام الأسد، وحتى تاريخ النظام نفسه وما يحتويه من حوادث ومجازر وأهوال، لن يكون موضع نظر، بل إن التاريخ يبدأ من مقتل أول عنصر أمن في “تاريخ الأزمة”.

ضمن هذا المسار تذهب الجغرافيا المنظورة إلى مواقع مختلفة في كل القصة، وبشكل يكاد يكون متبايناً بشكل جذري عن الشكل الذي يمكن قراءته في سردية الثورة. ووفق هذا، سيستغرب أدونيس، على سبيل المثال لا الحصر أيضاً، أن يقوم شعب ما بالثورة (ويقصد الشعب السوري) ويخرج من بلده. نعم، يمكن لمن يقوم بالثورة أن يغادر بلده هارباً، إذا كان ثمن قوله “لا”، وتظاهره ضد السلطة، هو أن تُشنّ عليه حربٌ مميتة. لكن كيف يمكن استيعاب مثل هذا الأمر، إن كان الطريق الثقافي الجميل إلى قرية قصابين، لا يمر بالأحياء المدمرة في مدن ريف دمشق، ودرعا، وحمص وحلب؟!

ملح وسكّر
وبالعودة إلى مثال السجن، حيث يتم تغييب سجن وإظهار آخر، بما يتناسب مع حاجة المنهج ذاته إلى وقود من الأمثلة، نتذكر أن بسام ديوب، مدير المراكز الثقافية في وزارة الثقافة في بداية العام 2019، وأثناء الاحتفال بافتتاح المركز الثقافي في سجن طرطوس المركزي، قال وبكل تواضع: إن “افتتاح المراكز الثقافية في السجون يعتبر خطوة رائدة في الشرق الأوسط والعالم، نتفرد فيها بسوريا”. وفي الحقيقة أن السجون المدنية السورية لطالما كانت تحتوي مراكز رعاية وتوجيه للسجناء، كما أنها تضم مكتبات تلبي حاجة السجناء، ويتذكر كل العرب سلسلة كوميديا “ملح وسكر” الشهيرة للثنائي دريد ونهاد والتي تجري في أحد القواويش (جناح في السجن)!

لكن للنظام طريقته في إعادة صياغة التفكير في المربع وطريقة تربيعه وتدوير الدوائر، وضمن هذا تتفتق المخيلة الضحلة عن سؤال: لماذا لا يكون قسم الرعاية مركزاً ثقافياً؟! ولماذا لا تكون للمركز صفحة في فايسبوك لنشر صور السجناء المبتهجين؟! وإمعاناً في المسألة نسأل: طالما أنها مراكز ثقافية، لماذا لا يذهب أدونيس ونزيه أبو عفش وعابد إسماعيل وهشام كفارنة وغيرهم لإحياء أمسيات أدبية هناك، لعلهم يأخذون بأيدي النزلاء إلى دوحة سوريا السعيدة!؟

*المدن