علي سفر: فيلم “بسيط كالماء” لميجان ميلان الأسى السوري في درب الآلام

0

مع وصول الفيلم الوثائقي “بسيط كالماء” للمخرجة الأمريكية ميجان ميلان إلى قوائم ترشيحات الأوسكار لعام 2022، تحضرُ الحكاية السورية القاسية مرة جديدة في أهمّ المنصّات الإبداعية البصرية حول العالم.

وصلت قصص السوريين في العَقْد الماضي بضع مرات، إلى المربع الأخير من الأفلام الوثائقية الأهمّ المرشَّحة للفوز بالأوسكار، وحصل فيلم يحكي عن رجال الخوذ البيضاء، من إخراج أورلاندو فون أينشيديل، على الجائزة في عام 2017، لكن الأفلام التي صنعها أبناء القضية ذاتها لم تتمكن من تخطي الحاجز، الذي فُتح لمخرجين غربيين وظل مغلقاً في وجوههم.

هنا، يتكرر المشهد الذي حصل في وقت سابق، إذ تقترب من المأساة مخرجةٌ مهتمة بالقضايا الإنسانية الحسّاسة، فصنعت في العام 2003 فيلماً عن “الأطفال السودانيين المفقودين، كما حصلت سابقاً على جائزة أوسكار الفيلم الوثائقي القصير في العام 2008 عن فيلمها “Smile Pinki” الذي عالج قضية الشفاه المشقوقة والجهود المبذولة لعلاجها في الهند.

لكن حضور سورية هذه المرة يأتي من زاوية مختلفة، إذ تغيب عن لقطات فيلمها مشاهد الموت والقصف والدمار، التي كانت جزءاً أساسياً من القصص التي قدمتها الأفلام السابقة، ويحضر بدلاً من هذا كله، وجعٌ آخر، هو ظل الكوارث التي أحاقت بمواطنيها، حيث تصبح التفاصيل التي غرق فيها كل مَن غادر وطنه بسبب حرب النظام على الثائرين، وبكل مفرداتها هي المادة التي يجب أن يتم التأمل فيها، بعد أن هدأت المدافع والبنادق على أغلب الجبهات!

وعَبْر البحث في الوقائع التي تعيشها أربع عائلات بين بقاع اللجوء حول العالم، وبين الألم المقيم في الداخل الذي يعيش فيه كثيرون الفَقْدَ والحرمان من رؤية أحبائهم بسبب الاعتقال والخطف على يد النظام وتنظيم “داعش”، تمد ميجان ميلان قصصها في الفيلم الذي أخذت عنوانه من عنوان كتاب للشاعر الراحل رياض الصالح حسين، لتكون السَّرْدِيَّات المَرْويَّة هنا مكوَّنة من جزيئات بالغة البساطة، ولكنها في الوقت نفسه تحمل معنى كلياً، يحكي عن الفظاعات التي جرت، ويُراد لها أن تُنسى على المستوى السياسي، بفعل ما يجري حول العالم من محاولات لتعويم الأسد ونظامه!

ما تريد المخرجة قوله، يتصل فعلياً بجانب أساسي من نوابض حل الأزمة، لكنها لا تفعل ذلك بشكل صاخب، فحاجة العائلات المبعثرة حول العالم من أجل لمّ شملها، وكذلك ضرورة ترسيخ وجودها في المجتمعات المستضيفة، وأيضاً عودة المُغيَّبين، كل هذا ربما بسبب ارتباطه بالوجع الشخصي لكل فرد يعاني منه، يحتاج فيما يحتاجه إلى قول خفيض هامس، لا يقارن موضوعه بالموت، ولكنه قد يصبح موتاً معنوياً، في حال لم يَلْقَ ما يحتاجه من اهتمام!

تتّبع الكاميرا منذ البداية حكاية الأم ياسمين التي تسكن مع أطفالها في خيمة على رصيف ميناء يوناني، بانتظار أن يستكمل زوجها صفوان اللاجئ في ألمانيا أوراق لمّ شملهم، وبانتظار استكمال الحكاية التي بدأت هنا، تمر المخرجة على أوجاع سمر وهي أم لخمسة أطفال، فقدت زوجها في غياهب سجون النظام، واضطرت لأن تعمل عاملة زراعية في تركيا على الحدود، وبينما تحاول تأمين أطفالها في ميتم مزود بما يمكنهم من العيش بشكل أفضل، تبرز قصة أخرى في تضاعيف نتائج الحرب، إذ يفقد الأطفال مرحلتهم الأنقى بسبب تحوُّلهم إلى رجال في وقت مبكر، حيث لا يرضخ ابنها الكبير فايز (12 سنة) لما ترغب به والدته ويضعها في مواجهة قدرته على رعاية إخوته أثناء غيابها عنهم.

وفي قصة موازية، تذهب الكاميرا إلى الشاب عمر، الذي يعمل في قطاع التوصيل في “بنسلفانيا-الولايات المتحدة”، لنرى كيف تمكن بعد أن حمل أخاه الصغير، الذي بُترت قدمه في قصف لقوات النظام، على ظهره، وعَبَرَ به الحدود التركية، وأوصله إلى حيث يمكن له أن يجد الحلول الأفضل لوضعه على صعيد تجاوز الإعاقة، والمُضِيّ في الدراسة. لكن الحكاية التي تبدو ذات أُفق جيد سُرْعان ما تتبدَّد دَفَقاتها السعيدة، بعد أن يُبَلَّغ عمر قراراً، بإمكانية ترحيله بسبب علاقته السابقة بأحد فصائل الجيش الحر!

وتكتمل دائرة الحكايات المُوجِعة، مع تمكُّن المخرجة بمساعدة فتاتين مجهولتَي الهُوِيَّة، من تصوير تفاصيل قاسية من يوميات عائلة الناشط محمد العمر، في مدينة “مصياف”، الذي اختطفه “تنظيم الدولة” مع الناشطة سمر صالح، في شهر آب عام 2013.

فتروي الأم ضيا باكيةً، عن الناشطين الذين غامروا بحيواتهم كلها، من أجل ثورة مدنية ديمقراطية، فتم استهدافهم، من قِبل النظام، ومَن نجا منه باغتته التنظيمات المتطرفة، وتختصر في ثنايا قصة ابنها، رواية مصير الثائرين الأوائل!

في استكمال التفاصيل، وبعد أن جالت كاميرا “بسيط كالماء” في اليونان وتركيا والولايات المتحدة وسورية، لخمس سنوات، تنتهي الحكاية الأولى، بتتبع حياة صفوان زوج ياسمين الذي يستقبل في النهاية عائلته الصغيرة، بعد رحلة طويلة مليئة بالانتظار، لكن جزءاً من الأسى يتسرب للمشاهدين وهم يستمعون لحوار بين رجلين يعيشان في المنفى، يُعبِّر أحدهما فيه عن أن النظام انتصر على شعبه الذي لن تقوم له قائمة، فيقول: “شعبنا ما عاد يرفع راسه لمئة سنة”!

لا يحفل أسلوب إدارة ميجان ميلان للكاميرا، بالجوانب الصاخبة للحكايات التي تتبعتها، ولا تبدو مهتمة بتكريس خطاب اتهامي ضد النظام الذي تسبَّب بالكارثة أو سلطات الأمر الواقع التي فرضت ممارساتها على السوريين أن يقرروا الهرب من أرضهم.

بل إنها وفي إطار بحثها عن اللحظات الأشد عاطفية في سير العائلات المشتَّتة والمبعثرة، وعَبْر لقطات ثابتة، تُظهر أبطالها من نساء ورجال، في حالة عجز، وترقب، وبانتظار أن تحدد بيروقراطيات اللجوء الغربية مصيرهم، يبقون مُكبَّلين بلا حول ولا قوة! 

وإذ يقول هؤلاء إن كل ما غامروا به، إنما حدث من أجل أطفالهم. يتبدى الواقع عن طفولة انتهت في غير موعدها، على أرصفة الموانئ، وفي الأراضي الزراعية وفي شوارع المدن الغريبة، وفي المطارات التي تنقل الناس إلى البلاد البعيدة!

فيلم “بسيط كالماء” الذي عرضته شبكة HBO العالمية قبل أسبوعين تقريباً، يشير إلى حسّاسية جديدة في التعاطي مع السَّرْدِيَّة السورية العامة، تبتعد عن اليوم الإخباري، وما يفضي به من أحداث وقصص، ليرى في الوجع البعيد أحوالاً يعرفها مَن يعانون منها، لا ينبغي اختصارها، وجعلها مسألة أرقام عن بشر مبعثرين هنا وهناك.

*نداء بوست