علي سفر: عينُ الأسد التي لن يشبعها سوى التراب

0

تجربتان تستحقان أن يُنظر فيهما حين يجري الحديث عن الانفتاح العربي على نظام الأسد، الأولى حالة نظام الديكتاتور الإسباني فرانكو (1892-1975)، حين حاولت الولايات المتحدة الأميركية إعادته إلى الحاضنة الأوروبية وضمه إلى حلف الناتو، والثانية حالة نظام الديكتاتور صدام حسين (1937-2006)، حين جرى خلق آليات دولية تضمن للشعب العراقي ألا تتردى أحواله بشكل كامل بسبب الحصار الدولي.

استعادة ما جرى في كلتا الحالتين، وبعد مرور عقود وسنوات على أحداثهما، يُمكّن المتابع من استنتاج ما يكفي ليقرر ويحزم أمور ظنونه، في الإجابة على السؤال الذي يشغل بال السوريين في الوقت الحالي، حول مصير الثورة السورية، والآمال بالخلاص من نظام البراميل الإجرامي، والتي تمثل مقاطعته من قبل الدول العربية والمجتمع الدولي بعضاً من ركائز قوتها.

احتاج إنشاء منظمة حلف شمال الأطلسي المعروفة اختصاراً بالناتو من القائمين على المبادرة رسم أماكن توضع قواتها، خاصة أن الرؤية الاستراتيجية كانت تبنى على إدارة الحرب العسكرية مع الاتحاد السوفييتي والدول التي سيطر عليها وشكل معها حلف وارسو، من خلال تضييق مساحة تمدده، حتى وإن احتاج الأمر تقديم تنازلات قد تعتبر قاسية، ومنها أن يتم بناء علاقة مع نظام فرانكو الوحشي البغيض، الذي قاد حرباً طاحنة ضد الحكومة الجمهورية الشرعية في العام 1936 ارتكب خلالها أبشع الجرائم ضد الإنسانية، فضلاً عن فرار مئات الآلاف من المواطنين هرباً من قمعه وعمليات الانتقام والبطش ضد كل من عمل ودعم وساند التجربة الاشتراكية المنتهية.

رفض الأوروبيون أن يتبنوا أي انفتاح مع مدريد، لكن الضرورات جعلت واشنطن توقع اتفاقيات ثنائية مع فرانكو، تتيح وجوداً للقواعد العسكرية، ولا تضمن حدوث تواصل سياسي مع نظامه، ولهذا تأخر انضمام إسبانيا فعلياً للناتو حتى عام 1982، أي بعد سقوط عهد الديكتاتورية بسبع سنوات، كما أن الانضمام للسوق الأوروبية المشتركة، لم يحدث إلا في عام 1986، بعد أن رُفض ذلك خلال سنوات حكم فرانكو الأخيرة.

العودة إلى التجربة الإسبانية، يهدف لقراءة خطوات الانفتاح من زاوية المصلحة المُلحة، التي لا يمكن ملاحظة أي أثر لوجودها على صعيد الحالة السورية، وبينما احتاجت منظمة الناتو لاتفاقية من نوع ما لتوجد لنفسها موطئ قدم في إسبانيا، لا تحتاج الولايات المتحدة لشيء كهذا في سوريا التي تعم فيها فوضى السيطرات، لأن قواتها مستقرة على الأرض، ضمن إطار التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة داعش، ولسبب أساسي أيضاً يجب عدم تجاهله، ألا وهو انتشار الإيرانيين والروس على ذات الأرض، والذي يستدعي من واشنطن حضوراً صريحاً ودعماً لحلفائها الذين يقومون بحماية مصالحها. كل ذلك يحدث من دون أن يلوث الأميركيون أيديهم بمصافحة مجرم صفيق كبشار الأسد!

وينطبق الأمر على غالبية دول العالم، ماعدا تلك التي تقترب من نظام البراميل لأسباب واهية غير ذات قيمة فعلية، كأيديولوجية مقارعة الإمبريالية، حيث يجد الحكام اليساريون الحمقى في أمكنة بعيدة كبعض دول أميركا الجنوبية وجاهة في بناء علاقة مع أصحاب الشعارات الطنانة التي لا تسمن ولا تغني من جوع!

التفكير بالحالة السابقة يؤدي إلى استنتاج لطالما طُرح كسؤال: ما الذي سيقدمه الأسد للآخرين في حال اضطروا لبناء علاقة معه؟

إنه من الناحية العملية لم يعد يملك من أمره شيئاً، بعد أن صارت شؤونه محكومة من قبل الإيرانيين والروس، وبالتأكيد سيكون حاله هذا سبباً إضافياً لرفض إقامة أي تواصل معه على الصعيد الدولي، ما خلا بعض الاختراقات هنا أو هناك، والتي لن تغير في الواقع شيئاً.

غير أن التعاطي مع سوريا بوصفها إمارة للأسد من دون النظر نحو ضحاياه، يشكل ظلماً كبيراً للسوريين غير المؤيدين الذين اضطرتهم الظروف للبقاء تحت جوره وتسلط عناصر أمنه وشبيحته، وصاروا رهائن أزمته الاقتصادية، وهذا ما يستدعي التفكير في الإجراءات التي اتبعت خلال حصار العراق بعد غزو نظام صدام لدولة الكويت.

ففي هذه الحالة، أُبقي النظام قائماً رغم قدرة الولايات المتحدة على إسقاطه، وخلقت آلية “النفط مقابل الغذاء”، من أجل تمرير المساعدات الضرورية للحياة، حيث تمكنه من تصدير جزء من نفطه يستطيع من خلال عائداته شراء الاحتياجات الأساسية للشعب العراقي.

لم يملك ديكتاتور العراق أدوات يهدد بها الدول الأخرى، بعد قص مخالبه في هزيمته أمام قوات التحالف في العام 1991، ورغم ذلك لم تقم الدول العربية بالانفتاح على نظام صدام حسين، بالتوازي مع تشدد المجتمع الدولي في محاصرته، حتى أنهي في الغزو عام 2003، رغم كل الصور التي كانت تخرج من البلد وتوضح الأثر المدمر على الفئات المسحوقة من الشعب العراقي، فالجميع كان يدرك أن عائدات النفط كانت تستخدم من قبل الفئة الحاكمة لقضاء مصالحها وشراء الولاءات، ولاسيما أولئك المثقفين والكتاب العرب الذين كانوا يعيشون على حساب كوبونات النفط التي يمنحها لهم صدام، من أجل الإشادة به والتطبيل له.

نظام الأسد لا يملك شأنه النفطي حالياً بعد سيطرة قوات قسد على أبرز الآبار، لكنه يهدد الأمن المجتمعي في كل مكان تصل إليه المخدرات التي يصنعها ويصدرها، ويلاحظ المراقبون أن الحصار بسبب قانون قيصر الذي يدعي وقوعه على كاهل السوريين، لم يمنعه حتى الآن من شراء أدوات رفاهيته، وكل المواد التي يسوقها الوكلاء التجاريون، وهم إما من حاشيته، أو شركاء لأفراد منها، حيث تنقل وسائل إعلام محلية عن توفر كل شيء في البلاد، وتستطرد في الحديث عن تلاشي المال وتسربه من أيدي الناس، بسبب الفقر وقلة الموارد.

لقد سمحت تداعيات الزلزال بتمرير كميات مساعدات كثيفة أتت من كل حدب وصوب، لكنها وقعت في أيدي مؤسسات أسماء الأسد، التي تتحكم بها وتستخدمها في سيطرتها على البيئات المحلية، ما يعني في المحصلة أن الأسباب الإنسانية للانفتاح على النظام، تبدو واهية ومضللة.

ما يدفع بعض العرب إلى اتخاذ الخطوات الراهنة، ليس واقع الشعب السوري الغارق في الفاقة والعوز، بل هي قدرة من يحكمه على أذيتهم، وهنا تبدو المشكلة التي يواجهونها معقدة أكثر، فهم لا يستطيعون تقديم الحوافز المالية للنظام ولشبيحته الذين أدمنوا التعيش عبر سلب السوريين مقدراتهم، وبدلاً من هذا يضطرون الآن إلى إعادة الاعتبار لعائلة الأسد وإشباع نهم أفرادها المالي، مقابل تخليها عن سياستها المافيوية، والابتعاد عن شركائها في طهران، لكن رأس النظام وكعادته في استهلاك الفرص؛ لا عينٌ تَشبع ولا نفْسٌ تَقنع، لن يكتفي، فهو غير مستعد للتخلي عمن أنقذ نظامه، من الشبيحة والميليشيات الإيرانية، وسيحاول تهديدهم بشحنات الكبتاغون كلما أتيح له ذلك، ومن دون أن يرف له جفن، فقد قرر بذاته مصيره، فإما أن يبقى كما هو وأكثر، وإما أن يفنى فتفنى المنطقة معه.

*تلفزيون سوريا