لا أتذكّر تحديداً المقالات والأبحاث المقصوصة من المجلات التي كنت أتابعها في سوريا، منذ نهاية الثمانينيات وحتى نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لكني أتذكّر تلك اللحظة السيئة، بعد قيامك بشراء مجلة فكرية أو ثقافية، ثم اكتشافك أن أحداً سبقك إلى فتح العدد، ومد أصابعه العنيفة إلى مقالة أو بحث أو ترجمة، ثم شدها ليشقّها، ومن ثم أعاد المطبوعة إلى كومتها، وكأن شيئاً لم يحصل. وحين تصل المجلة إلى القراء، ويرون ما حل بها، يدركون أن الرقابة الفاجرة بهذا الشكل هي جزء من قدرهم السوري.
لم تنج الصحف العربية اليومية، وكذلك المجلات الأسبوعية أيضاً من “شرم” صفحة منها أو صفحات. وعلى سبيل المثال، أتذكّر أن مقالات كثيرة للكاتب اللبناني حازم صاغية، في جريدة الحياة، كان مصيرها الشق والجعلكة! الأمر لا يتعلق بالمقالات اليومية التي يتناول فيها مواقف وسياسة النظام السوري، بل كان يتعدى ذلك ليصبح ملاحقة لأي مسألة تتصل بسوريا، تخالف ما يراه النظام مناسباً وصالحاً لأن يقرأه مواطنو البلد الذي يحكمه. ومن هذه التفاصيل أتذكر، كمثال، عرضاً لكتاب حنا بطاطو الشهير “فلاحو سوريا: أبناءُ وجهائهم الريفيين الأقل شأنًا وسياساتهم”، إذ خلت الصحيفة المتداولة بين أيدي السوريين من حلقاته الثلاث، لكن أعداد الصحيفة ذاتها التي كنت أطّلع عليها في مكاتب التلفزيون، كانت تصل بلا فلترة… لعلها الميزة التي كانت تُسلغ على بعض المديرين العاملين في الإعلام الرسمي، كانت منحة لهم، تضعهم في مرتبة أعلى قليلاً من زملائهم، وأيضاً عموم القراء السوريين!
لكن هذه المعادلة المفروضة على هؤلاء بحُكم سلطة الأمر الواقع، لجهة أن مؤسسة توزيع المطبوعات تتبع في المحصلة لوزارة الإعلام المتخصصة في مراقبة كل شيء في عالم الصحافة، كانت عرضة للاختراق دائماً. إذ لم تخل صحافة النظام وإعلامه من بعض المتواطئين مع المعذّبين، في جحيم المطبوعات المراقبة، إذ كان هؤلاء يصوّرون الصفحات المقصوصة، ثم يوصلونها لأصدقائهم، الذين يتكفلون فعلياً بتوزيع ونشر ما حجبه عنهم القارئ الرقيب!
وفي أمكنة خاصة، لا سيما بعض الأحياء حيث تتركز السفارات والمؤسسات الدولية وحيث تقطن شرائح مرفهة من السوريين، كان يمكن للزبون المداوم، الخاص، أن يحصل على المجلة أو الجريدة من دون رقابة… وذلك عبر دفع زيادة محددة على سعرها الرسمي.
لطالما بحثت عن تفسير لمعادلة الرقابة اليومية على الصحف والمجلات، مع افتراض أصحاب القرار بأنهم يستطيعون أن يحجبوا عن الجمهور المعلومة أو الخبر أو الرأي، مع علمهم بأن ما يُمنع اليوم، سيصبح معروفاً غداً، وأن الدراسات والأبحاث التي سيرى أنها تخل بالمبادئ الراسخة لسياسة الحزب الحالكم، ومن خلفه النظام، ستتحول في وقت ما إلى كتب ومؤلفات ستمر عاجلاً أم آجلاً عبر المَعارض وحتى عبر الشراء الشخصي، ونقلها عبر الحدود، إلى البلد حيث يمكن استنساخ أي شيء.. ناهيك عما استجدّ لاحقاً من عولمة الإنترنت والتبادل الإلكتروني للملفات!
لم أعثر فعلياً على أجوبة، مع مروري بتجارب شخصية، كانت تعيدني إلى السؤال ذاته، مَن يقرر الحذف والمنع في هذا الأمر؟! من المفهوم أن يقوم أحد ما بإصدار قرار بمنع كتاب “الصراع على السلطة في سوريا: الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة”، للمستشرق والدبلوماسي الهولندي نيكولاس فان دام، فعنوانه في حد ذاته يكفي للإشارة إلى مضمونه الذي لن يوافق أحد على السماح بتداوله في المكتبات السورية. وإذا كان الكتاب محايداً وغير مؤذٍ للسياسة الداخلية المعلنة، فإنّ أحداً من المسؤولين لن يتخذ قراراً بالموافقة على الأمر، وذلك لسبب بسيط، أن تحمل المسؤولية هو وجع رأس محتمل، ونقطة مسجّلة في السجل الأمني، قد تضعه تحت المساءلة يوماً ما فتمنع عنه منصباً أعلى أو هبة رئاسية ما!
لكن يمكن حل المسألة عبر غض النظر عن وجود النسخ في بسطات الكتب، وعدم مصادرتها ومعاقبة من يبيعها. على هذا الشكل يمكن تذكّر أن باتريك سيل، صاحب الكتاب المرجعي “الصراع على سورية”، الذي ترجمته وطبعته دار طلاس، لم يحظ بالموافقة ولسبب ما، على تداول كتابه “الأسد، الصراع على الشرق الأوسط”، فظل يباع على بسطات الكتب، بناء على أسلوب غض النظر، وعلى المنوال ذاته كنا نرى “السلام المفقود” و“لعنة وطن” لكريم بقرادوني!
حصلت على نسخة من كتاب فان دام، أثناء زيارتي لمدينة القاهرة، في منتصف تسعينيات القرن الماضي، واهترأت صفحاتها، لكثرة ما استعارها أصدقاء، حرصوا على أن يخفوا غلافها بورق الصحف.
كتابي في القصر الجمهوري
أما نسختي من كتاب “هذه تجربتي.. وهذه شهادتي” للشيخ سعيد حوى، الذي كان قيادياً في جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، ثم أصبح قيادياً أيضاً في تنظيم الطليعة المقاتلة، الذي خاض مواجهات مسلحة مع النظام في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينات، فقد واجهت مصيراً مختلفاً. إذ إنني ولخطورة العلاقة مع الجماعة، التي حُكم على أفرادها بالإعدام بموجب القانون 49 للعام 1980، سأخفي حيازتي للكتاب الذي اشتريته من إحدى المكتبات الإسلامية، في وسط العاصمة الأردنية عمّان، لكن أحد الزملاء المقربين في التلفزيون استعاره مني، ثم أعاره بدوره إلى أحد المسؤولين المؤثرين، فاختفى أثره، وبعد وقت طويل أسرّ لي بأنه انتهى على طاولة أحدهم في القصر الجمهوري، لكي يلخصه، ويُطلع عليه شخصاً ما!
فإذا كان كبار المسؤولين لا يعلمون بوجود مثل هذه الكتب، إلا من خلال القراء، وعبر وقوع بعضها في أيدي رجالات الأمن، عبر المصادرة، فإن هذا يستدعي سؤالاً أساسياً عن حقيقة أولئك الذين كانوا يرابضون في مكاتبهم في مؤسسة توزيع المطبوعات ليقوموا بشق المقالات المريبة، وعما كانوا يفعلونه حقاً!
فبعد مرور كل هذه السنين، وعلى انتهاء مثل هذه الممارسة نسبياً، بسبب اعتماد القراء على شبكة الإنترنت، وقراءة المقالات في مواقع نشرها، وأيضاً بعد 11 سنة من اندلاع الثورة السورية، لم يقم أحد من هؤلاء بالإعلان عن نفسه، ولم يتحدث عن الأمر كجزء من ماضيه، أو الإشارة إليه كجزء من ممارسة وظيفية لا تعني بالضرورة أنها تنتمي لقناعاته!
وعلى العكس من هذا الصمت، المتوقع ربما، يأتي حصول المرء على نسخة إلكترونية كاملة من المجلات التي كانت عرضة للاستهداف، ليكشف بوضوح أنّ الأوراق المحذوفة لم تكن تتضمن شيئاً مثيراً، ولم يكن وصولها للقراء ليشكل أي فرق، لا على مستوى المعلومات ولا على مستوى الواقع، فهي في المحصلة تنتمي لحقل التحليلات الفكرية والسياسية اليومية!
لماذا إذاً كل هذا الإجرام بالأوراق السورية في الصحف والمجلات؟ هل هي كينونة “الموظف” الذي عليه أن يؤدي دوره في القراءة، ومن ثم حجب المعلومات عن القارئ؟
المكتوبجي
نتذكّر أن لهذه المهنة سوابق شهيرة، كوظيفة المكتوبجي العثماني، التي كانت تؤدي هذه الغاية في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، واشتهرت لكثرة ما أضحكت الصحافيين والقراء على حد سواء، بما كانت تمنعه. لكن ما كنا نظنه قد ذهب ومضى، لم يكن كذلك، فقد قامت سلطات الحكومة السورية، خلال عهد المملكة السورية، بمنع إصدار صحف، بشكل علني، ويحسب أنه إجراء عادي، بسبب مخالفات ارتكبتها، فيتم نشر قرار الحجب وقرار العودة من خلال صحيفة العاصمة (الجريدة الرسمية)! وخلال الانتداب الفرنسي، كانت معركة الصحافة ضد السلطات واحدة من نضالات السوريين المكرسة لحريتهم.
السياسي الراحل أكرم الحوراني في غير مكان في مذكراته، يتحدث في سياق شرح الدور المنوط بمديرية الدعاية والأنباء، التي استصدر تأسيسها من خلال المرسوم رقم (8) بتاريخ 1 أيلول 1949، أنها ستقوم بـ”تنظيم شؤون الدعاية ومكافحة الدعايات الضارة في الداخل والخارج، ولها حق اقتراح القوانين والأنظمة لتنظيم شؤون المطبوعات الدورية وغرف المطالعة وتنظيم الصلة بين جميع الوزارات والمؤسسات العامة وبين الصحف ووكالات الأنباء، كما تقوم ببسط الحقائق وتوزيع البلاغات والملاحظات والاعلانات والمعلومات والتصحيح والرد والتكذيب كما تتولى توجيه الأفكار في الاتجاه القومي الصحيح، وحسن الصلات مع الدول والشعوب العربية، والاطلاع على ما تذيعه محطات الاذاعة عن سوريا وتزويد الدوائر به، وجمع الوثائق وتصنيفها وحفظ مجموعات الصحف والمجلات”.
وقد أكد الحوراني على هذا التوجه في مشروع ميثاق حزب البعث الذي عمل عليه في العام 1956، أن من مهمات الحزب “خلق جو داخلي وطني عن طريق لجنة حزبية تهتم اهتماماً جدياً بوضع تشريع ونهج لشؤون الدعاية والاذاعة والسينما والصحافة فيكون توجيهها نحو إعداد الشعب ومشاركته في تنفيذ أغراض هذا الميثاق” والتي يضع في مقدمتها الإيمان بأن “مناعة بلادنا ودفاعها الضاري ضد كل عدوان، وانتصار قضايانا في المجال الخارجي الدولي، انما يستند الى الشعب والى مشاركته الكاملة في ممارسة حقوقه وحمل مسؤولياته. فالدولة اذن مسؤولة كل المسؤولية عن توفير أسباب هذه المشاركة، وبقدر ما تؤدي واجبها نحو الأفراد تملك الحق في مطالبتهم باداء واجباتهم”!
البعثيون فعلياً لم يكونوا مخلصين لرؤية الحوراني فقط، بل صاروا على يمينه، ولهذا فإنهم لم يكتفوا بتطبيق هذه التوصية، بل زادوا عليها بمصادرة الصحافة كلها.
تبعاً لهذا، فإن ذلك الموظف الصغير، الذي أجرم بحق المجلات والجرائد، في عهد الأسديين، هو الوريث الشرعي لأفعال آبائه وأجداده المهنيين. وهو ما زال مختبئاً في مكان ما، نتوقع منه أن يقول أي شيء عن تاريخه المتخم بالأوراق المنزوعة؟ لكننا لن نعثر على مدونة كاملة توثق ما فعله! لقد خرب علينا القراءة، فأصابنا هوس البحث عن كل الممنوعات!
*المدن