علي سفر: عن كنان وقاف وآخرين في “السجن الكبير”

0

لا يحتاج الصحفي السوري كنان وقاف ذو المصير المجهول حتى اللحظة، المعتقل  أو المطارد من أجهزة نظام الأسد الأمنية، إلى تعاطف من زملاء له أعلنوا منذ بداية الثورة مواقفهم المعارضة، فسجنوا، ونزحوا، ولجؤوا. بل هو فعلياً يحتاج قبل هؤلاء إلى تعاطف آخرين، مازالوا يعيشون في سوريا، “السجن الكبير” كما وصفها بشار برهوم أحد أبرز مسانديه في منطقة الساحل، والذي قال في تسجيل له إن وقاف مسجون في واحدة من زنازين هذا “القاووش”!

الآخرون الذين نعنيهم هنا هم كل صحفي أو صاحب رأي تعرض للقمع وللإرهاب، واضطر إلى الصمت بسبب انسداد الآفاق أمامه، فإما السجن، أو القتل، أو الهرب. 

هؤلاء الذين صمتوا طويلاً ويحاسبون الآن من قبل البعض على ذلك، كانوا ضحايا كغيرهم، لكنهم لم يستطيعوا إلى الحرية سبيلاً، فإذا كانت كل السبل قد أغلقت في وجوه الخائفين الملتاعين، فهل يُحاسب المرء على سكوته؟

اشتغال المؤسسات الصحفية والحقوقية الحرة على قصة وقاف، وإضافتها إلى قائمة طويلة من الحالات التي سبقتها، لا بد أنه يعيد التأكيد على استحالة العيش، وممارسة المهنة في مناطق سيطرة النظام، الأمر الذي يثير المواجع، ليس على حال الصحافة فقط، بل على كل شيء في البلاد التي أمست خراباً.

وفي الوقت نفسه ينوس فعل التعاطف مع وقاف وغيره، بين الدعم غير المشروط لدى كثيرين، وبين تحفظات يرى أصحابها أنها محقة، إذ يدفعون إلى الواجهة بحقائق فعلية جوهرها غياب هؤلاء الصحفيين أي الذين يتعرضون للقمع حالياً، عن اتخاذ أي مواقف داعمة لزملائهم الذين دفعوا أثماناً كبيرة نتيجة موقفهم من فساد النظام في مرحلة ما قبل الثورة، وعانوا أشد العناء من موقفهم الرافض للحل الأمني في بدايتها، حتى إن عدداً غير قليل منهم لم ينج مثل غيره، ففقد في زنازين وتبين لاحقاً موته تحت التعذيب.

من منظور عام، يرى في أي اعتراض على أفعال النظام، خاصة إذا جاء من بيئة مؤيديه، جزءاً من سيرورة تداعيه، ونهايته المأمولة، يصبح بالتأكيد من الواجب دعم المعترضين، والمطالبة بحريتهم، في حال أصابهم ما أصاب وقاف وغيره.

لكن التجارب الشخصية التي نقرؤها كثيراً هذه الأيام على صفحات التواصل الاجتماعي، لا بد أنها ستجعل الصوت المتعاطف خافتاً، فبعض الذين يعانون الآن، من الجوع والفاقة، قاموا في أوقات ماضية بالمساهمة في الأفعال الأمنية الشائنة، كالتبرع بمساندة الشبيحة في قمع المتظاهرين في الشارع، مروراً بكتابة التقارير الأمنية بالمعارضين، والمساهمة بقيادتهم إلى السجن، وصولاً إلى تطوع بعضهم في الميليشيات الطائفية، ودعمهم الصاخب لجيش الأسد، وذهاب عدد منهم للتطوع في الفيلق الخامس المدعوم روسياً، كما أننا شهدنا حالات تولت فيها صحفيات مواقع تشبيحية وأمنية غير لائقة إنسانياً، ووصلت إحداهن إلى موقع استشاري غير قليل في آليات عمل النظام وسيطرته.

غير أن حالات أخرى، لم تسهم في كل ما سبق، تظهر على السطح، وتؤشر إلى أن صيغة التعميم تأخذ الصالح بالطالح فعلاً، ما يعني أن الدعوات التي ترن في الرؤوس وتدعوا إلى ترك ضحايا قمع النظام في مناطقه يقلعون أشواكهم بأيديهم، إنما تساهم في ترسيخ عقيدة أسدية قامت على التفرقة الحقيقية بين السوريين عبر سيطرة فئة محددة على كل المواقع والمناصب، وتحكمها بالموارد، كما ساهمت أفعال الإبادة الدموية تاريخياً في خلق الحواجز النفسية بينهم.

نتحدث هنا عن مستوى واحد من مستويات الانقسام السوري، مكرس وواضح، بين جهتي المعارضة والموالاة، ولكن ماذا عن ضفة من يؤخذون بجريرة وجودهم في مناطق سيطرة النظام، على أنهم مؤيدون؟! 

أليس من الواجب تفكيك الكتلة الإسمنتية الصلبة التي تغلق على عقول بعض المعارضين إمكانية رؤية وجود مصلحة حقيقية بالتغيير، حتى وإن تأخر وصول أصحابها إلى هذه القناعة عقداً من السنين؟

ألم تؤد الممارسات الفتاكة للنظام، إلى تقزيم الآفاق، وجعل السوريين يحلمون بأقل القليل من سبل العيش؟ واعتبار تنفس الهواء نعمة؟! وما الذي نتوقعه من فئات عاشت حياتها كلها وهي تتلقى التعليمات الصارمة في رفض الآخر واعتبار دولة القمع حامية للأقليات، وأن الآخرين ينتظرون اللحظة المناسبة للانتقام؟ نذكر هذا، ليس من باب التماس العذر، بل من نافذة النظر إلى حقائق تشكلت خلال عشرات السنين من حكم آل الأسد، الذي ما كان ليستمر لو لم تقم ماكيناته القمعية بتشويه العقل السوري العام، وحقن بقاياه بالخنوع والرضوخ؟

وفي لحظة كهذه، تتهم فيها حيزبون الأسد بثينة شعبان كل من يحتج على الواقع المعيشي بأنه عميل للصهيونية، تنتفي المسافة بين الداخل والخارج في الجغرافيا السورية، ويعرف الجميع أن الثورة التي قيل إنها ماتت ماتزال تملك عرقاً ينبض يحتاج للكثير من الدماء.

*تلفزيون سوريا