رغم اقتران سيرة مدينة سلمية بحضور الثقافة والمثقفين في السرديات اليومية السورية، إلا أن صورة المكان وساكنيه لم تصبح في أي يوم من الأيام متجهمة! بل إنها على العكس من ذلك كانت تذهب شيئاً فشيئاً نحو السخرية.
عوامل متعددة صنعت في لوحة المدينة مفارقة كبيرة، تقوم على التناقض بين واقع حالها وبين طموحات “السلامنة”؛ فهي تقع جغرافياً على حدود البادية السورية، كما أنها تحاذي مركزين حضريين هامين في بلاد هما مدينتا حمص وحماه، بالإضافة إلى فقر سكانها، وقلة مواردها، وعدم توفر الثروات الباطنية في أراضيها، وإهمال النظام المتعمّد لها. لكن قاطني المدينة المحسوبين بغالبيتهم على الطائفة الإسماعيلية، بالإضافة إلى السكان من الطوائف الأخرى، حملوا في تاريخهم الحديث أحلاماً كبرى، قادتهم في وقت ما إلى أن يكونوا شركاء في حسم مصير البلاد، ولاسيما عندما شاركوا في الحراك البعثي الذي أوصلهم إلى السلطة، لكنهم سرعان ما أقصوا عن مركز القرار بعد أن استولى الأسد الأب على السلطة.
سخرية السلامنة في الزمن الراهن ليست مقطوعة عن الماضي، فقد اشتهر من رجالاتها الشاعر الراحل أحمد الجندي (1990-1911)، المحسوب على “القائمة القصيرة” للساخرين في سوريا، التي تضم شخصيات يتوزعون على كافة مدن ومحافظات البلاد. وقد اشتهرت له أبيات شعرية، يشير فيها إلى طبيعة السخرية في حياته ومن حياته، حيث قال:
أنا الذي عشت بوهمي فما | أعرف غير الوهم لي موطنا |
لي من شبابي ضحكة نوَّرت | صحبي وفي قلبي يموت السنا |
وسرت في دربي لم يدر بي | على شقاء العيش إلا أنا |
يا شقوة الإحساس مما أرى | ويا ضلال الروح أين الهنا |
يتبعني الحرمان أنى مشت | عيني وأنى أبلغ المنحنى |
كأنما عمري أنشودة | أخطأ فيها اللحنَ من لحنا |
وعلى ذات المنوال، ستظهر قصص مبدعي المدينة، أمام “بلدياتهم” من بوابة الضحك، فكل من حمل القلم فيها، وغادرها إلى “الشام” لن يحضر فيها من خلال إبداعه فحسب، بل من خلال المواقف الطريفة، والمرويات التي يحدثك بها الصغار قبل الكبار أيضاً.
هنا،يمكن العثور على جذور الكوميديا السوداء لدى محمد الماغوط (1934- 2006)، والتمرد العنيد لدى فايز خضور (1942- 2021)، النبرة التشاؤمية لدى علي الجندي (1928 – 2009).
الثقافة المدونة، بحروفها المسطرة في الكتب والدواوين، وألقها المرسوم في المشهد الأدبي، لم تمحِ الذاكرة الشعبية، لا بل إنها أدّتْ إلى توسيع حكاياتها وطرائفها… وبالتأكيد، وبحكم عدم توثيقها، فقد تمت المبالغة في تفاصيلها، وتكاد الحادثة الطريفة تنسب لشخصيات متعددة، فلا يعرف المرء إن كان بطلها هو الماغوط أو الجندي أو خضور، أو أحد ما من أبطال المدينة القادمين من غير صنعة الكتابة!
وفي هذا السياق، تأتي محاولة الصحافي السلموني مصطفى علوش الذي يعيش منفياً في ألمانيا، لتدوين بعض ما حفظته الذاكرة من طرائف عاشها أو سمع بها، في كتاب “ظرفاء من سلمية” الصادر قبل أيام عن دار موزاييك في إسطنبول.
فإذا كان السياق برمته كما أسلفنا، يجعل من الضحك قريناً للفاجعة، فإن الأسماء التي يركز عليها المؤلف، جامع الحكايات، ستظهر جانباً آخر في موشور للمدينة، يمكننا أن نوصفه بأنه عالم البشر العاديين، أولئك غير المهجوسين بالشهرة، أو بالبكاء على الماضي، أو تحري آفاق نهضة الوطن أو الأمة، أو الانحياز لحزب البعث أو للسوري القومي، أو للعمل الشيوعي.
الطرفة هنا، هي حكاية أولئك الذين عاشوا في المنطقة الوسطى بين عالمين، عالم المثقفين المشهورين، وعالم مجانين المدينة الذي شكلوا في وقت ما حالة طريفة بدورهم.
ومن خلال الأسماء التي سيمر بها القارئ، سيتكرس نوع مختلف من المرويات، تختلط فيها الصراحة الشديدة وربما الفجة، مع مكونات حكائية لا تسمح بها اللياقة المجتمعية، كالهاجس اليومي بشرب العرق أو الخمر عموماً، وهجاء الزوجات، توصيفهن بالقبح، كما في الحكايات التي يسردها عن أبي غسان الآغا الذي يكاد الشخصية الأشهر في مرويات السلامنة الضاحكة، الشاعر خضر الآغا ذكر في شهادته عن أبيه قول الماغوط له ذات يوم: “لو كان أبوك شاعراً لكان صاحب طريقة”. وعلق قائلاً: “فكرت حينها، أنه فعلاً صاحب طريقة في النكتة. النكتة أيضاً نصٌ”!
السلموني الذي يتذكر تاريخه الحديث، وخاصة محاولة شباب المدينة العودة إلى الفعالية السياسية من بوابة معارضة النظام، منذ سبعينيات القرن الماضي، وما دفعوه من أثمانٍ في السجون، لم يمل على العموم إلى التعاطي مع مثل هذه التفاصيل من زاوية الندب، والبكاء على الماضي. بل إنه قام بملء فراغ المفارقة بالسخرية من ماضيه ومن حاضره، وكذلك من مستقبله طبعاً.
السخرية هنا لا توفر أحداً، إنها تأخذ الجميع في طريقها، ليكونوا إما ضحايا لكوميديا الموقف، أو شهوداً عليها، فيتبادل الجميع المواقع، وكأنهم يحضرون في سوق المدينة، لا ليبيعوا، أو ليشتروا، بل ليقايضوا فيما بينهم، ما يضحكهم، وكأنهم يحاولون تخفيف أذى الواقع على أرواحهم، وكوارث السياسة، والنهايات المرعبة لواقعهم!
الكوميديا المحلية في مدينة صغيرة، يتصل سكانها ببعضهم بصلات القربى، تصبح عائلية أيضاً، كما في حالة “آل علوش الضهرة” وعدنان الأغا ابن أبي غسان، لكنها تصنع فعلياً في الشارع، حيث يلتقي البشر، فيصنع أبو عبدو زريق النكتة في محله التجاري، بالتماس مع كافة شرائح المجتمع السلموني، بينما يخوض الشاعران نزيه عيسى ومنذر الشيحاوي في صناعة ثنائيات ساخرة، ويحكي نوفل نصرة عن المواقف المضحكة التي حدثت بالتوازي مع انطلاق المظاهرات في عام 2011، وتفسح صفحات الكتاب المجال لسرد طرائف مختلفة يرويها آخرون كعلي خليل وأبو الغيث ومازن ياغي، كما يتم الحديث عن شخصيات تبدو وكأنها مختلقة لتكون أيقونات تتكئ عليها الألسن فتحملها المواقف الغرائبية كشحصية “عزو”! وأيضاً تظهر في المسار تجارب حاولت تأطير السرد الشعبي أو كتابة تفاصيل ما يحتويه إزاء مشاكل الواقع، كمجلة الاشباح التي حررها عدد من ظرفاء المدينة، هم منذر الشيحاوي وجمال خربيط ونبيل فهد ونشأت خربيط وإسماعيل الصغیر وفيصل الشيحاوي.
كتاب مصطفى علوش، الذي غرقت نسخته الأصلية في البحر، أثناء رحلة جامعه محاولاً النجاة من حرب النظام على السوريين، نجا من الفقدان لحسن الحظ، وتأتي أهميته الفعلية، من كونه دعوة لتدوين تراث عريض في مدينة سورية، لا بد من أن تعقبها محاولات أخرى في المكان نفسه وفي مدن أخرى، في سبيل كتابة التاريخ الشعبي لسوريا.
هنا مختارات من الكتاب
أبو غسان الآغا
زير نساء
قال “أبو عباس”: «ولك يا “بو غسان”، ما بصير حبيب خيتك “أم عباس” إلا إذا دخل عالبيت شي فاره أو شي صرصور.. ووقت اللي بيجوا أهلها بيعمّ الفرح بديارنا وبتلبس حفر وبيصير صوتا من الدلع متل صوت أسمهان.. ومحسوبك بيصير زير وبيصدق، لأنو ما بيتعلم وعقلو صغير… وبس يجي حدي من طرفي بتدقّا البرديه، وخود عنين عا آخ وإيخ، ملعون سماها ما بتقولن وقت البدي ايّاهن».
قلو “أبو غسان”: «مرتي أضرب، ولّا بقلك: “من الكافات للبلعاس كلهّا مثل أم عباس”». “أم غسان” سمعت بالحكي فردّت على “أبو غسان”: «كل الزلم في شي براسن، شي بيخشخش، بس يشوفوا أنثى بيصيروا يخشخشوا متل مطمورة التنك.. و”كل الزلم من الحسكة لبلودان مثل أبو عباس وأبو غسان».
رواها: حسان الشيحاوي
إسماعيل زريق أبو عبدو
“ضَرّتنا هالآيات”
“أبوحسين” رجل متقاعد من العمل، ومهتم بعلوم الدين الإسلامي. في أحد الأيام جلس صدفةً في مكاني، وكان اثنان من زبائني يتناقشان بالدين، استمع لهما، وكان كل منهما يدافع عن مذهبه الديني.
“أبو حسين” خطّأ الأول.. واستند بذلك لآيات من القرآن، فشعر الثاني بالسعادة.. فقال له: «وأنت أيضاً على خطأ»، واستشهد بآيات قرآنية جديدة كدليل على خطأ وجهة نظر الشخص الثاني.
بعد قليل وصل اللبن إلى المحل. قام “أبو حسين” وطلب منّي أن أزِن له علبة لبن، فكان وزنها 7 كغ و200 غ، فقال لي: «سجّل 7 كغ». فقلت له: «وزنها 7 كغ و200 غ يا “أبو حسين”».
فعاد وألحّ بأن أسجّل 7 كغ… فقلت له: «يا “أبو حسين”، إلك ساعة عم تحاور الشباب بالدين، وعما تجيب شواهد وآيات قرآنية كدليل على صحة وجهة نظرك، وهلق جايي تقل لي: سجل ال 7 كغ ووقية… سبعة كيلو بس؟!».
“أبو حسين”: «سجل سبعة ووقية، بس والله هالآيات ضرّتنا».
ثنائيات نزيه ومنذر
الحسناء “رندا”
مررت بكاعبٍ فوق البرندا
تريك البدر- يخزي العين- قردا
تمدّ العنق من شلّال شعرٍ
يكاد يلامس الظمآن وردا
لها شفتان من توت شآمٍ
وريقٌ لو جناه النحل يصدا
ولو بصقت على صدرٍ سميدٍ
لصار خواصه قطراً وشهدا
وعيناها كفردٍ تسعَ ميلي
ودمّ قتيلها من غير مدّا
إذا التفتت إلى بغلٍ شموسٍ
يكوكع كل جامحةٍ ويهدا
أشارت لي فما صدّقت عيني
فقمت بفركها رمشاً وجلدا
جمالٌ لو أشار يداً لكسرى
لأحنى راكعاً للكفّ عبدا
وكررت الإشارة لي فحلّت
عظامي تشتكي حراَ وبردا
ومن فرحي سقطت بلا حراكٍ
على زفت الطريق أعنّ وجدا
ولولا فزعة سحبت بجسمي
لهشّم قرعتي دولاب هوندا
مجلة الأشباح
أبراج الساعة
“منذر الشيحاوي- “جمال خربيط”
نقدم إليكم عدداً من أبراج الساعة:
برج الجحش: على صاحب هذا البرج أن يحترم نفسه هذا الأسبوع، على الأقل، لأنه معرّض لخازوق لن يقوم من تحته، وعليه بالصبر والتجلّد، لأنه أيضاً معرّض لحمل ثقيل لا ينفعه عند ذلك شتى أنواع النهيق والتلبيط والتعنفص.
برج أبو أربعة وأربعين: هدر المصاريف بشكل زائد شيء غير منطقي، وخاصة في شراء الأحذية والجوارب، مفاجأة غير سارة هذا الأسبوع، فبعض الأرجل لديك مهدّدة بالقطع أو بالشلل. الاختفاء عن الأنظار أولى في هذه الظروف الدرامية.
برج الكلب: لا تكثر من اللتّ والعجن هذا الأسبوع، ولا سيما العواء في أنصاف الليالي، فالبلديّة جادة لمكافحة الذين من أمثالك، مكافحتهم بالسم أو بالطلقات الناريّة ليلاً. أما موضوع الوفاء الذي تدّعيه وتتغنّى فيه، فغير وارد في هذه الملحمة، كن منطقياً ولا تبحث عن المشاكل، فالتجوال ليلاً يهدّد مصيرك وتتعرض لأذى اللصوص والسكارى.
*المدن