يرتفع حماس السوريين المنكفئين على أحلامهم مع كل حراك شعبي في الساحات العربية، فيتبنونه، ويرفعون شعاراته، ويستنهضون ناشطيه، ويقدمون لهم النصح، بلهجة خبراء انتصروا في تجربتهم، وكرسوها أنموذجاً لا يدانيه نموذج!
وحينما يدقق المرء بالمحتوى والشكل الذي ينشره الناشطون السوريون على شبكات التواصل الاجتماعي في تضامنهم وتعاطفهم، يرى أن غالبية ما يطرح يغرق بدرجة كبيرة في الإنشاء اللغوي، وفي أقل أحواله لا يبتعد عن الشعاراتية، وفي لحظة من لحظات فوران الدم في العروق يعتلي المنبريون صهوة المسار باتجاه الشعر والبلاغة، ولابأس من استعادة أغنية هنا أو أهزوجة هناك!
تكرر الأمر في متابعة تدفق التواصل الاجتماعي حيال الحراك المصري ضد نظام السيسي، وعاد النمط ذاته إلى الواجهة قبل أيام مع الهبة الشعبية العراقية ضد تسلط الحكم الطائفي وفساده الذي يحكم العراق منذ 2003.
في تسارع نبض السوريين مع إرهاصات ثورات الربيع العربي المتجددة، ثمة تماه مبالغٌ فيه بينهم وبينها، يمكن لمقاربة محتواه أن تشرح -لمن لا يعرف- كيف يحاول المهزوم تعويض خسارته، عبر الاشتغال على النبر اللغوي بعد أن فقد إمكانية الفعل في الواقع، وصار أقصى ما يمكن فعله هو استدعاء التفاصيل المبهجة من وقائع السنة الأولى من الثورة، وإذا نظرنا وسمعنا ما يردده هؤلاء في أي حراك يقومون به في المنافي القريبة أو البعيدة لن نعثر على أي شعار جديد أو أغنية مختلفة عما صنعه ثوار 2011، وكأنما تأبدت اللحظة عند ذلك الزمن، وانتهى الحلم عند تفاصيلها، فلم يعد هناك فعل بعدها!!
وأيضاً، بمقارنة ما يقدمه السوريون في تظاهراتهم القليلة ووقفاتهم الأقل مع ما يقدمه الثائرون العرب هنا وهناك، نرى كيف تطور خطاب هؤلاء مع سيرورة واقعهم المحلي! بينما بقي ثوار الكرامة السوريين على حدود شعاراتهم وأغانيهم الأولى!
هنا يمكن تفسير الأمر من زاوية أولى نرى من خلالها أثرَ تعقد الحراك الثوري في واقعه، لا بل جموده بعد أن سد الحراك المسلح الطريق أمام الفعاليات النضالية المختلفة، بعد أن أوغل النظام في دم الناشطين السلميين الذين صنعوا في وقتهم تجارب مختلفة غير مسبوقة في التاريخ السوري.
وبالإضافة إلى هذا، تشتت الجهود الجماعية في المنافي بسبب الواقع الجديد الذي اضطر ناشطو الثورة للعيش فيه، فتحول هؤلاء إلى ممارسة فعالياتهم بشكل فردي، وأهملوا فكرة الاجتماع الجماهيري العام، حتى صارت الدعوة للتجمع أو للتظاهر مخيبة وغير مقنعة بالنظر إلى كثافة أعداد السوريين في المنافي المختلفة!
واقع الحال وكذلك التأمل في المجريات الراهنة للثورة السورية يؤدي بشكل أو بآخر إلى إيلاء أهمية كبرى للحراك الذي يستطيع أن يبقي السردية الثورية حاضرة ومستمرة أمام الأجيال الجديدة، وكذلك راهنة وباقية في الميديا العالمية التي تحتاج دائماً للأحداث كي تبقي القضية ماثلة على الشاشات، وفي سياق هذا يمكن إدراج العمل على المنتج الإبداعي الجماهيري، بالتوازي مع فكرة الاجتماع الجماهيري ذاتها!
المؤسسات السورية المعارضة لا تبدو مدركة لأهمية أفعال تنتمي لنسق النضال السلمي في أطوار الثورة، وخاصة تلك التي يهيمن عليها الخمود والانكفاء، والشعور بالهزيمة، لا بل إنها تظن في غالبيتها أن النضال الجماهيري عبر التظاهر والاعتصام مجرد شيء إعلامي، يكفيها منه تسجيل بضع لقطات بعدسات الكاميرات، وبثها عبر القنوات وصفحات التواصل الاجتماعي!!
يقارن عدد من السوريين الذين حضروا فعاليات سياسية أو احتفالية للمعارضة الإيرانية، بين قدرة مؤسستها السياسية التنظيمية على جمع الآلاف من المؤيدين وحشدهم في سبيل إحياء شعلة نضالهم ضد حكم الملالي في طهران، وبين عدم قدرة المؤسسات السياسية السورية المعارضة كلها على جمع السوريين على موعد محدد لاحياء مناسبة أو ذكرى ما، وكذلك فشلها في دعوتهم لاشعال شوارع المدن الأوروبية التي يعيشون فيها أو غيرها! وحقيقة الأمر أن مجرد التفكير بهذه المسألة يعيد في البداية موضوع ثقة الجمهور السوري بهذه المؤسسات، حيث توسع الشرخ بين الاثنين مع تقادم الوقت، ولكن المؤسف أكثر هو تجاهل القائمين عليها للمشكلة، وإنكارهم لوجودها أصلاً! وبالإضافة لما سبق هناك عجزٌ مزمن لدى مؤسسات المعارضة بشكل عام عن القدرة على تمثل تجارب الآخرين والاستفادة منها، وهنا سيقول قائل؛ إذا كانت هذه المؤسسات عجزت طيلة وجودها عن تمثل التجارب التاريخية وبما يجنبها هزائم تكتيكية وأخرى استراتيجية، فهل تأملون منها أن تستدرك عجزها عن جمع الجمهور الثائر في مناسبات تحيي مآسي السوريين اليومية؟!
*المصدر: موقع تلفزيون سوريا