نحن الآن في سوريا نهاية الثمانينات، وعلى وجه الدقة صيف عام 1988، يسرب لنا أحد زملائنا في جامعة دمشق العدد الأول من مجلة الناقد!
بدا الحدث مختلفاً، ولا يشبه تداول عدد من مجلة المعرفة الصادرة عن وزارة الثقافة، أو نسخة من جريدة الأسبوع الأدبي، أو مجلة الموقف الأدبي الصادرتين عن اتحاد الكتاب العرب!
كان الإحساس يقارب حيازة منشورات حزب العمل الشيوعي أو الحزب الشيوعي-المكتب السياسي الممنوعين، وهو أمر كان يكلف الفاعل آنذاك السجن لسنوات بموجب أحكام محكمة أمن الدولة سيئة الصيت!
لم نستطع أن نخمن، ونحن نفرد محتويات الحقيبة الثقافية التي جاءت بها مجلة رياض نجيب الريس، إن كنا ندخل في “السليم”، أو المسموح، أم أن الاشتغال على الثقافة، وتحطيم الكهنوت الثقافي الرسمي، وخلخلة شكل العلاقة بيننا كقراء وبين منتجي الثقافة، سيقودنا إلى حقل الممنوعات!
لم ننتظر كثيراً، فسرعان ما قادنا الريس نفسه إلى التورط معه في لعبته، التي ظلت غير معلبة أو مقولبة، طيلة سنوات لاحقة.
لقد أراد الرجل أن يمارس السياسة على طريقته، فأمسك برأس المنبر الثقافي، وشده إلى الأرض، حتى هبط مثل الجمل، ثم ركبنا عليه جميعاً، كتاباً وقراءً على حد سواء. ومن أعلى سنامه، كنا نرى في سوريا على الأقل حيث كل شيء مرتبط بالسياسة، أن الناقد تحطم الشكل الراسخ المستقر للثقافة، الثقافة التي ابتلعتها المؤسسات الرسمية، والمؤسسات الحزبية التي كانت تصنع نمطها الثقافي الخاص!
كانت افتتاحية رياض نجيب الريس في عدد الناقد الأول تحمل عنوان “إسقاط الأقنعة”، وسيحدد فيها جوهر ما تريد وهو: “أن تنشر ما لا يجروء أحد على نشره. وأن تتبنى من لم يعد أحد راغباً في تبنيه. مجلة تحلم بمجددين ومغامرين. مجلة قادرة على أن تحب وتكره”!
وهكذا ستصبح المجلة حزبنا السياسي، الذي سيبني عمله التنظيمي على إخراجنا من القوالب التقليدية للنشر، وسيصبح تمردها هو الأيديولوجيا! وشيئاً فشيئاً سنتخلى عن مقاربة ما يجري بالطريقة الحزبية السائدة، وسنكتشف أن الحياة أجمل وأحلى دون ذلك الصلف الذي ورثناه من بيئاتنا المحاطة بالأسوار!
حيث سنتخفف من تقديس الشخصيات الثقافية المكرسة، ولن نصاب بالهلع حينما سيأتي أحد أعداد المجلة على حالتنا الثقافية السورية، متوغلاً في تفاصيلها، مفككاً (شللها)، وآليات صناعة وتكريس الأسماء فيها!
وسنكتشف أن المرور والتسرب إلى صفحات المجلة لن يحتاج لواسطة مع الريس نفسه أو مع هيئة التحرير، بل يحتاج إلى مظروف بريدي! أضع فيه نصاً مكتوباً بخط اليد، وأرسله إلى عنوان المجلة، التي سترسل لي بعد فترة وجيزة رداً بقبول النص، وسينشر بعد ذلك، ليكون أول ما أنشره في حياتي من أدب!
وبالتأكيد لن تمر ثورة الناقد من دون عقاب، إذ لم تصل للقراء في الشام دون أن يمارس الرقيب الحصيف عليها “شطارته”، فينتزع منها صفحة أو صفحتين أو ثلاث!
الصفحات المنزوعة كانت تستعاد، فيتم تصويرها، أما الأعداد التي تمنع فكانت تصور كلها ليتم تداولها بين القراء!
الخلطة السحرية التي شربنا منها طيلة سنوات الناقد السبع، والتي علّمت بعضاً منا، ولاسيما أولئك الذين فتنتهم “مهنية” الصحافي، في إدارة مجلة “جرأتها من جرأة كتّابها” -كما كان يقول- تخلت عن المنبرية لصالح الشارع، في علاقة بدت غريبة على متلقي الثقافة عبر المؤسسات التقليدية، إذ لم يتوقع هؤلاء أن تتم تجزئة الأفكار الكبرى، والمقالات المطولة للكتاب العظماء، لتصبح نتفاً من الأسطر، تقتصد في لغتها، لتصل المعنى، وهذا ما تكرس أكثر في تجربة مجلة “النقاد” التي أطلقها الريس في مطلع الألفية الجديدة، ثم أغلقت بعد ثلاث سنوات!
انتظر رياض نجيب الريس سنوات ليتحدث عن خلطته المعادية للتقليديين، حيث سيقول في لقاء أجراه معه حسين بن حمزة: “أنا صَحْفنتُ الثقافة. الثقافة لم تكن مثلي الأعلى يوماً. لم أكن سهيل إدريس أو طه حسين. الفرق بيني وبين أصحاب المجلات الأدبية أنّهم أنصاف آلهة، في حين أني رجل عادي. أقبل وأرفض وليس لدي من مقدس يسبق النشر. كانت فكرتي تتمثل في تقريب المادة الثقافية إلى قارئ الصحيفة اليومية. في “النقاد”، جربت أن أجعل المجلة أكثر صحافة من الجريدة نفسها. عملت منها مجلة “أرتيستات ثقافة” شبيهة بالمجلات الفنية التي تكتب عن المغنين والراقصات”.
وفي جانب آخر، سيتحدث الريس في كتاب “صحفي المسافات الطويلة” الذي سجلته معه كشهادة وحوار، الصحافية سعاد جروس، عن معركة البحث عن التمويل للمشاريع التي عمل فيها ومن أجلها! لن يدعي الرجل الطهرانية، بل سيحكي بصراحة قلما مرت في عالم الصحافة العربية، عن مساعيه لمقابلة المسؤولين في غير بلد عربي من أجل الحصول على التمويل الذي يضمن له الاستمرار في إصدار مجلاته، ولكنه قبل ذلك يشرح في مكان آخر الفرق بين ممولي الماضي وممولي الزمن الحالي: “في السابق كانت الجهة الداعمة أو الممولة تقول افعلوا ما يحلو لكم، لكن لا تهاجموني. اليوم تفرض الجهات نفسها لائحتها السوداء، وتطلب استبعاد أسماء معينة. المناخ الإعلامي العربي تغيّر كثيراً. هناك اليوم خنوع صحافي. أسهل شيء صار التضحية بالكتّاب، في سبيل ضمان الدعم المالي”!
بالتوازي مع صنيع مجلتي الريس في مشهد الصحافة الثقافية العربية عموماً، والسورية خصوصاً، لعبت دار الريس ومنذ تأسيسها في عام 1986، دوراً كبيراً، في احتضان ونشر المختلف، الذي لم يكن مرحباً به في سوق الناشرين العرب، لقد حملت جوائز الدار، أسماء باتت مكرسة في المشهد الشعري العربي، لاسيما وأن مساحة كبرى صنعها الزمان والتقاليد البائسة في عالم الثقافة بين الأجيال، قام رياض الريس بمسحها حينما حكّم مع الشاعرين الراحلين نزار قباني وأنسي الحاج جائزة يوسف الخال للشعر عام 1988!
لكنها وبعيداً عن الأدب، الذي احتضنت منه نتاجاً عربياً ثرياً، ستكون الدار الأكثر نشر للكتب السورية التي لا يمكن أن تنشر في بلدها، مع ريادةٍ في نشر الدراسات الكاشفة لما يجري في البلد الذي خرج منه الريس نفسه، وظل طيلة حياته يحلم بالعودة إليه كصاحب مشروع صحافي!
يندب الريس حظه حينما يتحدث عن أن مرضه (الفشل الكلوي) الذي أقعده طيلة العقد السابق، قد أكتشف في أوائل أيام الثورة السورية: “لقد كان جسدي ماكينتي الخاصة التي حملتني من مكان إلى آخر (…) لم تغفل عيناي حدثاً منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي. ولم أعتذر أمام مناسبة كبرى أو حرب أو انقلاب أو غزو. أما الآن، فعليّ أن أكون بطريقة ما غائباً ثلاث مرات في الأسبوع، لا غائباً عن العالم وحسب، بل عن سورية تحديداً. سورية التي تعنيني أكثر من أي وقت الآن. فأنا مجبر في كل مرة على أن آخذ قسطاً طويلاً من الراحة قبل أن أعود إلى وعيي لأراقب سقوط العالم في بلادي”.
فجوات الزمن التي عاشها رياض نجيب الريس أثناء مرضه، ورغم ما كان يشعر به من عجز، لم تكن تجعله يوقف سير العمل في الدار التي استمرت في تصدر مشهد نشر الكتب السورية! لكن إحساس الرجل المستغرق ومنذ دهر، بضرورة أن يعود إلى دمشق كشخص فاعل، يستعيد زمناً عاشه في وقت ما، ثم ضاع عنه في زحمة التقلبات السياسية، والانقلابات، وسيطرة العسكر البعثيين، وتحول البلاد تحت إدارتهم إلى جحيم، كان أقوى من أن يقتنع بما قدمه، أو ما برحت داره تقدمه!
وضمن هذا المستوى من مقاربة رحيله، ستصبح دمشق، أشبه بفردوس مفقود، سيلحظ القارئ مرور طيفه في أغلب ما تحدث به الراحل في الفترة الماضية، فهي صندوق من صناديق حياته، لم يستطع رميه أو كسره، ولن يستطيع، فدمشق في الرحيل الأخير تصبح أقسى وأشد وحشية على أبنائها المخلصين!
*المدن