علي سفر: حين يُقاد المثقفون بالأصفاد إلى السلام

0

اجتهد المسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس في مسرحية (الاغتصاب)، فكتب حوارات، لم يسبقه إليها أحد في المنطقة العربية، بين شخصيات إسرائيلية، وأخرى فلسطينية!

كانت الفكرة الصادمة التي احتواها النص، وأثارت ضد كاتبه سيلاً من النقد، تجاوز حدوده الأدبية، ليصل إلى تخوينه، تقوم على احتمال أن ينشأ بين شخصيتين متعاديتين نظرياً، نقاشٌ يؤدي إلى استبعاد مكونات التطرف، وتفكيك الحيثيات التي تمنع قيام وطن يمكن أن يجمع بين الشعبين، على أرضية الحقوق المتساوية، والعدالة، وبما في ذلك حق الفلسطينيين باستعادة حقوقهم المسلوبة!

آنذاك لم يكن هناك تصور يفيد بوجود شخصيات إسرائيلية يمكن الحوار معها، في الأوساط الرسمية العربية عموماً، وفي الفضاءات الفلسطينية، الموزعة بين جماهير كانت تخوض غمار الانتفاضة الأولى، وبين المنظمات المقاتلة من أجل تحرير فلسطين (من النهر إلى البحر)!

كانت الشخصية الإسرائيلية المتخيلة في النص، تعترف بآثام دولة إسرائيل، لا سيما قيامها على أنقاض الوطن الفلسطيني، وترى ضرورة أن يعود الفلسطينيون إلى أراضيهم، حيث أن ما سبق هو الشرط الأولي لقيام علاقة شبه طبيعية بين الجهتين!

غير أن سياق الممارسات الرسمية الإسرائيلية كان يؤدي وبحسب الحكاية، إلى تهاوي “قيم” الكيان ذاته إلى الحضيض، ما يكشف أن الدولة القائمة حالياً ليست سوى مؤسسة “الاغتصاب”!

تمرير الحوار بين الشخصيتين المتحاربتين، وفي ظل التنميط الحاصل لكلتيهما في عوالم الطرف الآخر، لم يكن صعباً في الساحة العربية فقط، بل كان أيضاً جزءاً من معاناة مثقفين من أصول يهودية، يبتعدون في توجهاتهم عن الصهيونية لمسافة ما!

وضمن هذا السياق لم يمر الحوار المفترض بين الفدائي الفلسطيني علي مع أفنر عضو فريق اغتيالات الموساد، الذي يلاحق مخططي عملية (ميونخ 1972) برداً وسلاماً للمخرج الأميركي ستيفن سبيلبرغ في فيلمه (ميونخ)! فقد واجه انتقادات واسعة، من قبل اليمين الإسرائيلي، ويقال إن “جريمته” الثقافية هذه كلفته عدم الترشح لجوائز الأوسكار في العام ذاته! إذ هاجمه ديفيد كمحي الذي كان من كبار مسؤولي الموساد في السبعينيات قائلاً: “أعتقد أنها مأساة أن شخصاً في مكانة سبيلبرغ الذي صنع أفلاماً رائعة يقوم بإخراج فيلم يستند إلى كتاب يقدم قصصاً زائفة”!

ومن الجهة المقابلة استنكر الفلسطيني محمد أبو داوود (مدبر عملية الهجوم) اعتماد المخرج على مصادره الخاصة، فقال إنه كان يجب على سبيلبرغ أن يتشاور معه بشأن فيلمه عن الواقعة، ليضمن أن يعرض الموضوع بشكل صحيح، وأضاف: “المفروض إذا أراد المخرج أن يظهر الحقيقة أن يتحدث مع الناس، الذين يعرفون الحقيقة”!

المعوقات التي تمنع إمكانية حدوث الحوار بين الطرفين، هي ذاتها ما يمنع حدوث التطبيع، وهي لا تحتاج كثيرا من الشروحات من أجل فهمها، أو معالجتها، فبدون تحقق العدالة، واستعادة الحقوق المسلوبة، يصبح كل حدث من هذا النوع رهين الفشل والانهيار في أي لحظة!

وإذا كان للحوار من ضرورة فإن هذه التفاصيل هي أول ما يجب على المحاورين النقاش حوله، ودون ذلك، سيصبح شكل العلاقة بين الطرفين، بحوار أو بدونه، ساذجاً، وملفقاً، وغير واقعي، مثل تلك الحكايات التي يقدمها الممثل الأميركي اليهودي أدم سندلر، في أفلامه، حيث يمكن جمع الإسرائيلي مع الفلسطيني، في ساحة رقص، أو حفل شواء على الشاطئ!

وأيضاً مثل القصص التي يمررها منتجون إسرائيليون على نتفليكس في مسلسلات متخيلة مثل (فوضى)، وغيره! إذ يمكن جمع أي شخصية فلسطينية مع أي شخصية إسرائيلية بجرة قلم درامية!

الحوار المنشود من أجل صنع السلام، يواجه عقبة كأداء هي تفاصيله، ومؤدياته! فإذا كان السياق الإبداعي المتخيل، قد واجه ما واجهه حينما جعل هذا الأمر موضوعه! فإن التجارب الفعلية التي جرت على الأرض، لم يكن مصيرها أفضل حالاً!

ففي نهاية التسعينيات من القرن الماضي أسس المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد مع صديقه الموسيقار الإسرائيلي دانييل بارِنبويم (منح الجنسية الفلسطينية تكريماً له على المبادرة) أوركسترا تضم موسيقيين شباناً إسرائيليين وفلسطينيين وسوريين وإيرانيين، حملت اسم (الديوان الغربي-الشرقي)، كان شعارها ” متساوون بالموسيقا”! قامت بتقديم حفلات في عدة بلدان، لكنها لم تستطع أن تغادر الحيز الضيق الذي يمكنها الحراك فيه، فلا الفضاء الثقافي العربي رحب بها، ولم تكرس في الفضاء الإسرائيلي أيضاً، خاصة وأن بارِنبويم نفسه متهم من قبل الإسرائيليين بانه معادٍ للسامية بعد عزفه مقطوعات للموسيقي الألماني فاغنر، وبسبب موقفه المؤيد نسبياً للحقوق الفلسطينية!

وفي وقت ما قام المخرج ستيفن سبيلبرغ ذاته بتقديم 500 كاميرا رقمية صغيرة بالتساوي لفتية فلسطينيين وإسرائيليين، طالباً منهم أن يصنعوا أفلاماً تحكي عن السلام، في محاولة منه للتقريب بينهم، لكن هذا المشروع طوي وغاب ضمن سياق الصراع الذي لم يتوقف، بسبب تعنت المحتلين، وفرضهم للاستيطان، ونهشهم المتواصل للأراضي الفلسطينية!

فعلياً، يمكن للموسيقا، كما يمكن للسينما وللفن بشكل عام أن يساهما في صناعة السلام، بوصفه تعبيراً عن رغبة طرفين في أن يعيشا معاً دون حروب وصراعات!

لكن إلى هذه اللحظة، ورغم مرور عقود على توقيع مصر على معاهدة السلام مع إسرائيل، واستعادتها لشبه جزيرة سيناء، لم تنشأ أي فعاليات ثقافية مشتركة بين الطرفين، تؤشر إلى حدوث تطبيع بينهما! وينطبق هذا على الطرفين الفلسطيني والأردني، اللذين وقعا أيضاً معاهدات مشابهة لما قامت به مصر!

ووفقاً لهذا، يصبح اندفاع الحكومة الإماراتية إلى التطبيع ثقافياً مع الإسرائيليين، وبناء “شراكة ثقافية” بينهما أشبه بقفزة (البلياتشو) في الفراغ، فلا مقومات للاتفاق، كالتي تحدثنا عنها أعلاه؛ فلم نسمع أو نقرأ أو نشاهد حوارات بين “مثقفي” الطرفين، تُفككُ العقد التاريخية المستعصية، ومن بينها الحقوق الفلسطينية، والتي يدعي الإماراتيون أنهم من أجلها يوقعون (اتفاق إبراهام) للسلام!

ولا حديث أيضاً عن مقاربة قيم مشتركة بين ثقافتين سائدتين في مجتمعين، كانا تاريخياً على طرفي نقيض!

من الواضح أن التوجه الإماراتي، هو سياسة يتم فرضها فرضاً على المثقفين، ويجري تمريرها عليهم، وكأنها تجري بين طرفين متكافئين، يمتلكان حق رفضها او الموافقة عليها!

ومثال ذلك الاتفاق الموقع بين لجنة أبو ظبي للأفلام وصندوق الأفلام الإسرائيلي ومدرسة “سام شبيغل” للسينما والتلفزيون الإسرائيلية، والذي ظهر من معطياته أنه قد أُسقط على المثقفين الإماراتيين بالمظلة ذاتها التي حملت الإسرائيليين إلى صحفهم ومجلاتهم!

يُقاد عرب الثورات المضادة إلى السلام بالأصفاد ذاتها التي عاشوا يحملونها عشرات السنين، وحين يحتج المثقفون على ذلك يمنعون من السفر، وتقيد حركتهم، وتتقلص حقوقهم، كما حدث قبل أيام مع الكاتبة الإماراتية ظبية خميس!

وبينما كان التفكير بالحوار حول الحقوق المشروعة هاجس المثقفين من أجل أن يكون السلام حقيقياً، وليس مجرد شراكات بين حكومات وأنظمة تتحالف مع الشيطان ضد شعوبها، كانت هذه الأخيرة تهدر الوقت والثروات تحت شعار التوازن الاستراتيجي!

وإذا كان للثورات العربية من كلمة في أمر جلل مثل السلام، فإن البلاغة السياسية تقول: الفرق شاسع بين أن نذهب إلى السلام كالأحرار، وبين أن نذهب إليه مجبورين، مأمورين!

*تلفزيون سوريا

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here