تداعى ناشطون على مقلبي مؤيدي النظام ومعارضيه خلال الأيام الماضية في حملات من أجل وقف عملية بيع وزارة خارجيته لمبنى السفارة السورية في مدينة بون الألمانية، والذي تم إيقاف العمل فيه منذ عام 2012، بعد أن نُقلت السفارة إلى مدينة برلين إثر قيام الوحدة الألمانية.
السبب المعلن لدى مؤيدي النظام والذي يدفعهم لمعارضة عملية البيع هو أن المبنى الذي تمت إشادته وفق قواعد عمارة حداثية سائدة تم إكساؤه بالمقابل وفق الطراز المعماري الدمشقي الشهير، فصار من داخله تحفة خالصة، تولاها المهندس محمد وليد السيروان، والذي تذكر مصادر أنه قام من أجل إتمامها بتأمين سفر أكثر من خمسين حرفياً سورياً مع معداتهم إلى ألمانيا، لتخرج سقوف غرفه وممراته وجدرانه على هيئة تناظر البيوت الدمشقية التقليدية الثرية!
أما السبب الذي أعلنه المعارضون من أجل إشهار حملتهم فهو يتأتى من كون عملية البيع هي جزء من سياسة النظام الذي يبيع الممتلكات السورية لغرض تمويل حربه ضد الشعب السوري الثائر عليه، وهذا الأمر يستدعي منع إتمام العملية وفضح الغايات من ورائها!
في واقع الأمر إن الحديث عن عرض مبنى السفارة في بون للبيع ليس وليد اليوم، بل تم الإعلان عنه منذ أكثر من سنتين حيث نقلت صحيفة “جنرال انتزايغر” الألمانية أن مبنى السفارة السورية في مدينة بون الألمانية وضع على قائمة العقارات المصنفة للعرض أمام زبائن محتملين، بعد توافق بين وزارة الخارجية السورية وبين الوكلاء العقاريين على البدء بإجراءات البيع، إثر فشل كل السبل التي انتهجت سابقاً بحسب الدوائر الداخلية في حكومة الأسد للاستفادة منه، فهو لم يعد يصلح كسفارة بسبب انتقال العاصمة إلى برلين، وهو لا يصلح أيضاً لأن يكون مركزاً ثقافياً بسبب عدم الجدوى من افتتاح مركز ثقافي في منطقة لا كثافة فيها للسوريين أو العرب، بالإضافة إلى أن كبر مساحته (4000 متر مربع)، وكذلك كسوته الداخلية الفخمة، باتت نقمة عليه، بعد أن كان القصد منها وضع الإرث الحضاري السوري لجهة الجماليات أمام المسؤولين الألمان الذين يزورونه ومعهم أيضاً البعثات الدبلوماسية التي كانت توجد في ذات الحي سابقاً، إذ إن عملية فكها ونقلها تتطلب مبالغ مالية لا تمتلكها وزارة خارجية النظام المشغولة منذ 2011 بالدفاع عنه، وبسلب اللاجئين المقيمين في بلدان اللجوء أموالهم (ضمن وثائق سفر وأوراق معاملات حياتية) لدفعها في خزينة النظام المستنفذة!
ولكن هل يبيع النظام السوري ما يملكه في بون أو غيرها؟
الجزء الأكبر من الحقيقة لا تتضمنه مجريات الوقائع التي يتم تداولها في السطور السابقة، بل إنه يتوفر في حكاية المبنى ذاته، والذي لم يدفع فيه نظام الأسد الأب قرشاً سورياً واحداً وكذلك لم يكلفه ماركاً ألمانياً واحداً! بل تكفل ببنائه وبإكسائه عدد من رجال الأعمال السوريين، بالتعاون مع السفير السابق سليمان حداد الشهير بسطوته وعلاقاته وتاريخه الأمني ودوره في بنية النظام، فقد كان إيجاد بناء للسفارة السورية في ألمانياً هو حاجة للجالية السورية كلها، بعد أن كان المقر السابق غير مؤهل بشكل لائق ليقدم الخدمات المطلوبة لأفرادها، وهكذا طرح حداد -وعلى الأرجح أنه فرض ذلك- على رجال الأعمال وعلى الأطباء والمهندسين السوريين المقيمين هناك أن يقدموا الأموال لصالح المشروع الذي تم فعلاً من خرجهم كما يقال في السياق العامي، فدفع الثري السوري الراحل أكرم العجة على سبيل المثال لا الحصر مبلغاً يقارب 100 ألف مارك، ودفع غيره مبالغ أخرى، وفُرِض على عدد من الأطباء أن يدفع كل منهم مبلغاً لا يقل عن ألفي مارك، للوصول إلى الموازنة المطلوبة لشراء المبنى وإنشائه وبما يلبي الحاجة منه. غير أن السفير حداد لم يشأ أن يكون مقر مملكته في ألمانياً عادياً فطلب
من المهندس محمد وليد السيروان الشهير بدوره بعلاقاته الواسعة مع دوائر النظام أن يتولى عملية الإكساء التي كلفت مبالغ هائلة، ولا أحد يعلم أرقامها أو الكلف التي دفعها السوريون المغتربون فيها حتى اللحظة، إذ لا يوجد في سوريا كما هو معروف أي سياسة للشفافية المالية، تمكن الجمهور من معرفة الأرقام، أو معرفة ملكيات الدولة السورية خارج أراضيها!
وضمن السياق نفسه تحدث البعض على شبكات التواصل الاجتماعي عن أن الثمن الذي عرض في المبنى هو مليونا يورو ونصف، وهو مبلغ قد لا يتضمن قيمته الحقيقية فيما لو وضعت استراتيجية استثمارية له، ولكنه قد يكون مقنعاً في حال تم تقليص استخداماته ليكون مجرد فندق صغير فيه مطعمٌ مكسو على الطراز الشرقي الدمشقي!
إذن، النظام يبيع ما لا يملك، رغم أن الورق يقول بملكية وزارة الخارجية للمبنى، المتبرع به من قبل المغتربين السوريين، وبالتالي فإن الحملة التي تنطح لها ناشطون معارضون تجد بعض أسانيدها في المعلومة السابقة، ولكنها في الحقيقة تحتاج لتأصيل وتعزيز، ليفتح باب السؤال على مصراعيه حيال تصرف النظام بملكيات الشعب السوري، إن كان في الداخل أو في الخارج، سواء كان عبر الأصول المالية المتوفرة في بنوك خارج سوريا أو في الموازنة التي يقررها كل عام لحكومته ولا يستطيع أن يحاسبه عليها أحد..
وضمن ما سيمر في باب الأسئلة، لابد أن يأتي الاستفسار العام عن مقدرات بلد غني مثل سوريا، وكيف انتهى به الحال لأن يحكمه نظام باع كل استثمار ثرواته المعدنية وغير المعدنية لإيران وروسيا في سبيل أن يضمنا حمايته وعدم سقوطه! فإذا كانت الدول
تبني سياساتها ومشاريعها وفق حاجيات شعوبها، ووفق مصالحها الاستراتيجية، فإن مراجعة دقيقة لسياق بيع النظام وحكومته لمقدرات السوريين، توضح كيف أن النظام الذي حكم سوريا عشرات السنين يبيع فعلياً ما لا يملكه، من أجل مصلحته، دون أن يحاسبه أحد، فلا يوجد هناك أي مؤسسة تستطيع مساءلة النظام على سياساته أياً كان نوعها، ولعل واقع الحال لسوريا يوضح كيف أمسى بشار الأسد شبيهاً مشوهاً لقيصر روسيا ألكسندر الثاني الذي باع ألاسكا للولايات المتحدة في العام 1867، بمبلغ سبعة ملايين دولار، تاركاً هذه اللطخة السوداء مثالاً في التاريخ عن حكام، باعوا ما لا يملكون، في سبيل أن يستمروا حكاماً، ولكن التاريخ مضى بهم إلى أحط مزابله.
هامش: على هامش ما سبق الحديث عنه على شبكات التواصل الاجتماعي حيال مبنى السفارة في برلين، تذكر ناشطون آخرون في صفحة (كنوز الفنون السورية) مبنى مؤسسة مياه عين الفيجة الكائن في شارع النصر وسط دمشق، وأظهرت الصور أن كسوة المبنى لا تقل أهمية عن مبنى برلين، ولكن المعلومات التي أظهرها الحديث عنه كانت تؤشر إلى أن المبنى الذي صممه المهندس المعماري السوري عبد الرزاق ملص، وصمم كسوته الداخلية الأستاذ محمد علي الخياط الشهير بأبي سليمان، لم يتم بناؤه وفقاً لرغبات شخصية ترضي الشهوات السلطوية لدى فلان أو علان، بل جاء في سياق المشروع الوطني لنقل مياه الفيجة إلى سكان دمشق وحفظها بطريقة صحية، تشكلت من أجله شركة مساهمة قدرت كلفة المشروع حينها بمئة وخمسين ألف ليرة عثمانية ذهبية.
لمعلومات أكثر يرجى العودة إلى البحث الذي يحمل عنوان: دراسة معمارية تحليلية وتوثيقية لبناء مؤسسة مياه عين الفيجة بدمشق. بقلم المهندسة ندى الحلاق، في مجلة جامعة دمشق للعلوم الهندسية المجلد التاسع والعشرون- العدد الأول- 2013.
*المصدر: موقع تلفزيون سوريا