علي سفر: حكاية بيت منهوب؟ أم وطن منكوب؟

0

يخبرني مُعارضٌ منفيٌّ في إحدى الدول الأوروبية، عن أن جمعية تعاونية سكنية، تخصص قبل الثورة بمنزل فيها، أرسلت إلى بيت أهله، رسالة بريدية مسجلة، تبلغه فيها أنها قد فصلته، بسبب عدم دفعه للأقساط الباقية عليه، من التكاليف، التي سبق له أن دفع الجزء الأكبر منها مبلغاً غير قليل.

لقد انتهى إذاً بالنسبة للرجل مشروع بيت العمر، أي المكان الذي سيؤمن فيه على نفسه، وسيقضي بين ردهاته، بقية أيامه، بعد أن يكون قد استنفذ سنوات عمره كلها، في العمل في بلده، ليربي أولاده، فيؤمن لهم ما يسترهم، مروراً بأعباء دراستهم، ويوصلهم إلى مرحلة الاعتماد على النفس، ليتقاعد بعد ذلك مطمئناً إلى أن ما بقي من شقاء مستحق بوصفه سورياً، يمكن أن ينقضي، طالما أن ثمة جدران تقيه حر الصيف وبرد الشتاء!

يقع بيت صديقي أو لنقل مشروع الجمعية السكنية التي اشترك فيها بوصفها مشروعاً أهلياً غير حكومي، في إحدى المناطق الثائرة التي خرجت عن سيطرة النظام، ثم استعادها بعد أن قام بتهجير سكانها إلى الشمال، وإلى إدلب تحديداً.

البيت الذي لم يستخدمه أحد طوال سنوات الثورة، وبقي سليماً رغم ما شهدته منطقته من قصف بالبراميل، تحول بعد عودة سيطرة قوات النظام على المنطقة، إلى أداة لمحاربة أصحابه، مثله مثل البيوت والأراضي، التي كان على مالكيها أن يدفعوا ثمن موقفهم من النظام، إما الموت تحت القصف اليومي أو الحصار والموت جوعاً، وإما التهجير، بعد أن فرضت عليهم الظروف وتخلي العالم عنهم، القبول بالشروط اللا إنسانية من أجل إنهاء معاناتهم!

لا يشعر صديقي بأسى الخسارة، رغم فداحتها، ضمن المعايير المحلية للمواطن السوري، فيهمس بهدوء المطمئن: “هذه خسارة صغيرة، لا تستحق أن أعلن عنها، أمام السوريين الآخرين الذين فقدوا كل شيء، وأصيبوا بالخسارات المفجعة، فقتلت قذائف النظام أحبابهم، أو غيبهم في سجونه، ومضوا بعيداً عن ديارهم التي أمست محتلة!”.

حكاية الرجل، وما تتضمنه من أشواك قهر تخز روحه، ولا تخفى في كلامه، واحدة من مئات آلاف القصص، التي يمتلك مثلها كل سوري اضطرته حرب النظام على الثائرين إلى المغادرة، ضماناً لسلامته الشخصية، في مواجهة العنف الفاجر، الذي قوبلت به مطالب الثائرين في الشوارع، حيث ما لبث أن تحول قسم كبير منهم الى حمل السلاح، قبل أن تتداعى الوقائع دراماتيكياً إلى ما هو أسوأ، إلى أن وصل السوريون إلى حالتهم الراهنة!

ميزان الخسارات، والذي يحاول النظام أن يقنع مؤيديه أنه لا يؤثر فيه، فلا يقدم أي تنازل في سبيل أي حل، سوى عودة السوريين جميعهم للرضوخ له، لا يهوي إلى الأسفل في جهة الثائرين والمعارضين الذين تشردوا في مشرق الأرض ومغربها، بل إنه يهوي أيضاً في جهة أولئك الذين أيدوا النظام، ورأوا فيه المدافع عنهم، بعد أن تم سوقهم ذهنياً إلى خرافة وجود خطر وجودي يهددهم بسبب الثورة!

فهؤلاء وبعد مرور عقد كامل على بداية “الأحداث” وفق تسميتهم للثورة، باتوا على حافة الهاوية، حيث تتربص بهم المجاعة، وتهين إنسانيتهم النهايةُ المذلة التي قادتهم إليها سياسة الأسد، والزمرة الحاكمة معه، بعد أن جعلت من أولادهم حطباً سهل الاحتراق في نيران أحرقت أخضر البلاد ويابسها!

يعيش رأس النظام وحاشيته متعة الانتصار كعصابة، فاستيلاؤه على أملاك ابن خاله (على سبيل المثال)، يعادل لجهة آلية التفكير، فوزه ببلاد مدمرة، تعلو شوارعها صوره!

ووفقاً لتكوين الهرم المافيوي، سيعيش أتباعه الأدنى منه انتصاراتهم وفق مقاساتهم، فيربح ذلك الضابط جُعالاتٍ إضافية، وينال وزير مكاسب رخيصة، وتتسلسل الانتصارات الدنيئة، لتصل مراتب سفلية، لا كرامة فيها، لتحكم هؤلاء شريعة الافتراس!

فحين نتذكر كيف كان النظام يشرّع الفساد، فجعل السوريين المعدمين طفيليات، تتعيش على حساب سوريين آخرين، عبر قطع الطرق على المعاملات في المؤسسات الرسمية، بغية نيل الرشاوى، وفرض خوات الحماية، لدرء شر القوانين والضرائب، ندرك كيف سيعتاش قطاع كبير من حثالة المؤيدين، على أملاك الغائبين، دون أن يرف لهم جفنٌ، طالما أن أدوات الحماية متوفرة، في الدولة الفاشلة!

يشعر السوريون الذين فقدوا أملاكهم وأحبابهم، وباتوا مشردين بين النزوح واللجوء، أن بلادهم محتلة، قبل قدوم الجيوش المتعددة إلى الأرض السورية، من قبل نظام لا يرى فيهم سوى جحافل يهرق حيواتها، في آلة سيطرته الجهنمية على مقدرات البلاد، واستباحته لمصائر أفرادها!

كما يشعر السوريون الذين ظنوا ذات يوم أن دفاعهم عن النظام هو دفاع عن الوطن، أنهم قد خدعوا، فبعد كل ما بذلوه في سبيل الأسد، بات عليهم أن يدفعوا في مرحلة ما بعد “الانتصار” أثماناً إضافية، فلا شيء يوحي بأنهم يعيشون كالمنتصرين!

فالمنتصر لا يعيش الفاقة والجوع! ولا يُذل في طوابير الأفران، ولا يقضي لياليه في العتمة بسبب عدم وجود الكهرباء، ولا ينام ملتحفاً الأغطية السميكة بسبب عدم وجود الوقود للتدفئة!

والمنتصر بالتأكيد، لا يمكن أن يقبل الصراعات على مئات مليارات الدولارات بين أفراد العائلة الحاكمة التي بات أفرادها ينهشون بعضهم، وبشكل مكشوف دون أدنى خجل من خسارات المؤيدين، بعد أن طوبت سوريا كملكية خاصة، رغم أنها تُسجل ضمن قائمة الدول الأكثر فقراً في العالم، بنسبة بلغت 82.5% تحت خط الفقر!

وفي المحصلة، لا يعيش المنتصر نشوة انتصاره تحت سيطرة الإيرانيين والروس، بينما تخردق أجواءه الغارات الإسرائيلية شبه اليومية على مواقع الجيش “المكلل بالغار”، وحلفائه من الميليشيات الطائفية!

*تلفزيون سوريا