شاءت الصدفة أن أحضر معرض أكسبو شنغهاي في العام 2010، ورغم محدودية الحيز الزمني الذي حدثت فيه، إلا أن زيارة بعض أجنحة الدول المشاركة، كان كافياً لتمثل السياق العام لهذا الحدث الهام على المستوى الأممي، خاصة وأن المعرض لا يقام بشكل سنوي، بل كل خمس سنوات. وربما يمكن اعتبار هذا التحديد الزمني مدخلاً للتفكير بما يتم تقديمه للجمهور.
فخلال نصف عقد من السنين، يمكن لبعض الشعوب أن تنهض من تحت رماد تخلفها، أو أنقاض دمارها، وأن تضع لمستها في كتابة التاريخ، وهي حكماً تستطيع أن تكثف الزمن، والرؤى، ومشاريع المستقبل، لتصبهم عبر أدوات تقنية وفنية، أمام الزوار، حيث يتم تحميل الأفكار الفنية المعاصرة إمكانية النطق بهواجس وأحلام النخب التي تتولى إدارة البلاد المشاركة. وضمن هذا التصور، تصبح زيارة المعرض فرصة لتلمس المزاج التقني والفني الذي حملته السنوات الخمس السابقة.
ورغم أن تحديد خمس سنوات كموعد لحدث اكسبو عالمياً لا بد سيكون مناسباً لطريقة “الخطط الخمسية” التي أدار بها البعثيون اقتصاد سوريا، وسياقها المجتمعي والعلمي والفني وغير ذلك، فيصبح منصة لإبراز انجازاتهم على المستوى الحضاري والتنموي!
إلا أن الحقيقة جاءت بغير ذلك، ففي شنغهاي، وفي السنة التي سبقت حدوث الثورة السورية، كان الجناح السوري بالمقارنة مع أجنحة دول عربية أخرى بائساً بكل معنى الكلمة، فبينما جاء الجناح المصري مثلاً، بتصميم من الراحلة زها حديد، واعتمد الجناح السعودي كمثال آخر، على تصور غرائبي جذاب، بُنيت فيه الزيارة على شكل هبوط في الفراغ، على بساط حديدي متحرك، وسط عرض بصري ثلاثي الأبعاد، يشاهد فيه الزائر تطور المملكة من خلال الصورة، كان الجناح السوري مجرد صالة، قُطعت مساحاتها بألواح خشبية، ألصق عليها صور تكسبها بعضاً من شخصية البيت الشامي، دون اشتغال فني أو إبداعي، لا بل مع تكريس للرداءة واللامبالاة، من قبل القائمين عليه، من خلال تحويله إلى مجرد معرض صور عن تاريخ سوريا، وبعض صناعاتها، ولاسيما منها الغذائية، الكونسروة تحديداً، حتى باتت زيارة المكان، تشبه دخول المواطن إلى صالة للمؤسسة العامة لتجارة التجزئة!
هذه السنة، وبعد مرور عشر سنوات على الحرب التي شهدتها البلاد ومازالت، كان السؤال الذي هجست به، وأنا أبحث عن دليل مكتوب أو مصور، يشرح لي كزائر افتراضي محتويات الجناح، إنما يدور حول ما يمكن أن يقال عن سوريا، في فرصة عالمية مثل هذه، لكنني فشلت في العثور على الدليل الافتراضي، إذ لا يوجد شيء كهذا، كما أن محاولاتي لتلمس وجود ملامح جديدة أو لنقل مختلفة، لم تؤد إلى حصيلة مفارقة.
فمن جهة المكان (280 متر مربع)، لا يبدو من خلال الصور، أن أصحاب الجناح اشتغلوا على تصور معماري مهم، وفي الوقت نفسه، لا تظهر الرؤى التي ُبنيت من خلالها أقسامه، أنها لجأت إلى شيء مختلف، أو قامت بإنشاء متفرد، فقد أقيم كل شيء هنا بشكل ركيك، على الترابط بين “التاريخ والتراث والحضارة، والمستقبل”، وتحت شعار يذكّر بحملات بشار الأسد الانتخابية هو: “معاً، المستقبل لنا”!
ورغم أن التحضيرات لمثل هذا الحدث تستمر لسنوات، إلا أنه لم يظهر على السطح أي اهتمام حكومي رسمي، بصناعة مشاركة مهمة، سوى اجتماع أجرته الحكومة يوم 2 أيلول الماضي، شاهد فيه الوزراء تفاصيل محتويات الجناح، وجرى من خلاله تكليف وزارات الاقتصاد والسياحة والصناعة والثقافة والإعلام والنقل، بتحديد المشاركات المطلوبة.
وتبعاً لهذا، ستظهر ملامح الخفة على وزيرة الثقافة لبانة مشوح، في حديثها لتلفزيون منصة البعث ميديا (في “يوتيوب”)، عن طبيعة ومفردات المشاركة الرسمية في المعرض، إذ جربت ههنا أن تلعب دور بائع الحكي، بالنيابة عن حكومتها، فردحت لمنتقدي طبيعة المعروضات، وتحدثت مطولاً بالكلام المعلوك والانشاء المنمق عن الإرث الحضاري؛ فمشاركة سوريا بالنسبة لها أهم من المعرض ذاته، كما ادعت أن السوريين يتصالحون الآن مع أنفسهم، ومن خلال المساهمة في المناسبة، من أجل مستقبلهم.
وشدت على وجهها قناع البراءة، حين افترضت أنها ستقنع المشاهدين بأن الألواح الخشبية المعروضة في الجناح، قد أعطيت لكل فئات السوريين ليدونوا فيها ما يريدون، ولم يخضع اختيار المشاركين فيها إلى تصنيفات النظام، وطبعاً لا يفوتنا التذكير بأنه تتحدث عن النظام المخابراتي، الذي يقتل أطفال المدارس بالقصف المدفعي، لمجرد كونهم يعيشون في مناطق خارج سيطرته!
مشوح التي عملت في أخبار التلفزيون السوري باللغة الفرنسية في وقت ما، وبالرغم من محاولتها عبر اللقاء شد اللحاف باتجاه وزارتها، كما يفعل غير المحترفين عادة في المنافسات، بدت مبتدئة في فن صناعة البروباغندا، بالحديث عن “الأسس الوطنية الثابتة”، وبادعاء “وجود دعم دولي غير معلن للنظام”، وحتى في المجال الذي يفترض أن تلم به، وهو الشؤون الثقافية، ظهرت مستجدة، تكرر التعابير التي صدع الإعلام الرسمي رؤوس السوريين وهو يطنب فيها.
وبالعودة إلى الجناح، فإن الصور، والكليبات، التي تنشر على صفحة الجناح على موقع فيس بوك، تظهر أنه يبدأ بخط زمني للنشاط البشري في سوريا، يبدأ من مليون وثمانمائة ألف سنة قبل الميلاد، وينتهي بمشاركة سوريا الحالية في المعرض!
وبالتدقيق، فإن لجوء القائمين على المعرض إلى بث المعلومات عن سوريا، بدلاً من تصوير الإنجاز الحضاري الراهن، الذي نعلم أنه ليس فقط غير متوفر في ظل حكم آل الأسد، بل إنه متراجع بأشواط عن الواقع في لحظة وصولهم للسلطة، يؤشر بشكل فاقع إلى محاولة للوي أعناق معاني المفردات، لتناسب السياق الذي صنعه النظام ذاته في تحوير مسار التاريخ السوري، فأخر علامة في هذا الخط الزمني هي عام 1946، أي سنة الاستقلال عن الانتداب الفرنسي، وبالتالي فإن سبعة وخمسين سنة، هي فجوة، لا يعرف هؤلاء بماذا يتحدثون عنها، أو أنهم على الأقل فضلوا ألا يدخلوا في حيز المقلق، أو المريب، فشطبوها بجرة قلم!
الجناح الذي افتتحه وزير الاقتصاد السوري، واعتمد شركة أجنحة الشام للطيران ناقلاً رسمياً له، يعتمد فعلياً وكآلية عمل العبارة الشامية “من دهنو سقيلو”، والتي تعني توصيفاً ساخراً عن الاعتماد على الموجود، دون بذل جهد، أو دفع تكاليف!
ولهذا ستتكرر ثيمة البيت الشامي، ولكن بطريقة مختلفة، حيث تعرض في أحد الأقسام صور سقوف بيت نظام الدمشقي، وقبل هذا لن يجد صناع مادته طريقة للاحتيال على الزائر، أفضل من تسطيح معرفته بالواقع، وجعله يرى الماضي، والقفز منه إلى المستقبل، دون المرور في الحاضر، وعليه، سيركزون على ثلاث مفردات، ملّها السوريون، بعد أن صارت علكة في فم الإعلام الرسمي، الأولى؛ قصة الأبجدية الأوغاريتية، والتي غالباً ما تقترن بفكرة أو سوريا هي مهد الحضارة العالمية. والثانية؛ الترنيمة الحورية هي أقدم تدوين موسيقي عرفه البشر اُكتُشِفت في أوغاريت أيضاً. أما المفردة الثالثة فهي الرقم الحجرية القديمة، حيث أنجز القائمون على المعرض ما يشبهها، على 1500 لوح خشبي، تمت دعوة أفراد من المجتمع إلى الكتابة عليها أو الرسم، ثم جمعت ورصفت في قسم مخصص لها، وبالإضافة إلى ما سبق ثمة ركن لعرض أعمال تشكيلية للفنانين السوريين الذين تم انتقائهم بعناية بحسب وزيرة الثقافة!
قرأ صناع المشاركة السورية في معرض اكسبوا دبي 2020 شعاره “تواصل العقول وصنع المستقبل”، بطريقة مؤسسات النظام التقليدية، فلم يبذلوا في سبيله ما يجب بذله، معتمدين على مساعدات من هنا وهناك، وعلى تطوع بعض السوريين المقيمين في دبي للعمل فيه، كما أظهرت الصور إعادة تكريس حضور الدراميين، ليكونوا أفضل ما يمكن تقديمه، وسط الخواء السوري العام. ويبقى أن روح أو جوهر المشاركة، كان يتبع حركية النظام، لجهة جعلها مناسبة لجر الزوار إلى حيث الرؤية الرسمية، دون النظر بإمكانية وجود سوريا أخرى مختلفة تنتمي إلى الواقع، لا في شكله المقزّم الحاصل حالياً، بل في اتساع مساحة تأثير السوريين ومساهمتهم في الإرث الحضاري العالمي الراهن، الأمر الذي يحصل عبر مساهمتهم الفردية، في شتاتهم حول العالم، وليس من خلال مؤسسات الأسد أو سفاراته.
*المدن