لا تبدو مشكلة محمد بن زايد ولي العهد الإماراتي صغيرة، أو قابلة للضبط، في الحالة المتعلقة بالإعلان عن “اتفاق أبراهام” التطبيعي مع إسرائيل!
لقد دأب الرجل خلال عشر سنوات على خوض مغامرات هدفت إلى المحافظة على جوهر البنى التسلطية التقليدية في المنطقة العربية، رغم كل الملامح التحديثية التي يصر على جعلها واجهة لبلاده، ولكنها واجهة تنفذ منها الحراب وفوهات البنادق التي تدعم الحروب ضد كل الثورات التي قامت في البلاد العربية!
وفعلياً، ظلت فلسطين طيلة هذا العقد ملقاة بعيداً عن جدول أعماله، لا تمر في يومياته إلا في العموميات، ودون أن ترسخ في محرق تفكيره!
لقد ورث الملف عن والده زايد آل نهيان وأخيه خليفة بن زايد الذي حافظ على السقف المتفق عليه عربياً بما يخص القضية الفلسطينية، والذي نقلت عنه وكالة الأنباء الإماراتية في نهاية عام 2010 قوله: “إن الأمل في سلام عادل وشامل يتحقق بوضع نهاية للاحتلال “الإسرائيلي” للأراضي الفلسطينية والعربية، بما في ذلك القدس الشريف ومرتفعات الجولان والأراضي اللبنانية المحتلة”.
يمكن أن تحافظ دولة محمد بن زايد على رؤيتها المنسجمة مع القرارات العربية والدولية ذات الصلة، ولكن هذا لا يحمل صفة الأبدية، إذ إنه تعامل مع الأمر وفق سياق أفعال الشخصية الاستثنائية التي غرز الأميركيون في رأسه أنها جوهره!
ولهذا سيتأمل في الملف المغبر على طاولته بعجالة، وسيجعله عرضة للتفاوض بعد أن رأى إمكانية الاستفادة منه في هذه اللحظة، طالما أن الأدوار الإقليمية لإسرائيل وإيران وغيرهما في المنطقة، ورغم وصولها إلى حافة الفوضى الشاملة بقيت في مؤداها ونوازعها كما هي.
لقد تعلم من إرث القادة الذين حاولت ثورات الربيع العربي الإطاحة بهم وبسياساتهم، ففلسطين كانت لدى هؤلاء ورقة يمكن رميها على الطاولة في أي وقت، ويمكن الاتفاق على تمرير المصالح وتبادلها، باسم الشعب الفلسطيني في أي وقت.
ولكن كان لهؤلاء سياق كامل في التعاطي مع القضية، لقد خاضوا حروباً لتغيير وضعية الملف من السكون إلى الحركة! وكانوا يتحدثون عن القضية بفمٍ ملآن، فماذا لدى محمد بن زايد من أسباب لكي يخوض في ما خاضه من يتعلم منهم أصول الخداع والحذلقة في القضايا الكبرى؟ يعرف مراقبو سياسة الرجل أنه لا يوجد سياق واحد لمجمل أفعاله على الساحة العربية والإقليمية بشكل عام، إنه يخوض في النجاحات التي تنقلب إلى خسارات، ثم يخرج رأسه في مكان آخر محاولاً ردم الحفرة التي سقط بها سابقاً!
وضمن هذا المسار ستكون فلسطين مجرد تفصيل وظيفي، يجب أن يُستخدم من أجل إبرام صفقة أعمق وأكثر أهمية!
ولكن كيف يستطيع أن يهوي بالسقف الذي رسخته سياسة الدولة تاريخياً تجاه القضية الفلسطينية؟
يمكن فعل ذلك بطرق شتى، ففي السياسة أسهل شيء هو التخلي، ويضاف إلى ذلك من حيث السهولة إقناع الجمهور بأن خذلان الآخرين، والتخلي عنهم إنما جاء لمصلحتهم، والدفاع عنهم،! وعليه سيدعي أن الاتفاق جاء ليمنع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو من ضم أجزاء من الضفة إلى دولة الاحتلال. ولا بد من دوران عجلة إقناع الإماراتيين أولاً والعرب أصحاب الرؤوس الحامية ثانياً، بأن الاتفاق مع الإسرائيليين هو لمصلحة الفلسطينيين! وإذا لم يقتنع هؤلاء أو أولئك، ولم يرحب الفلسطينيون بما يجري، لا بد من فتح الجبهة الإعلامية ضدهم؛ “إنهم لا يعرفون مصلحتهم، وهم يعضون اليد التي تمتد إليهم، لقد استغلوا الإمارات عشرات السنين، وها هم ينكرون عليها حقها السيادي بعقد اتفاق سلام، يا لهم من جاحدين”!
لو دقق أصحاب الذاكرة الحارة، بجوهر الهجمات الإعلامية التي شنها مثقفو بن زايد ضد الفلسطينيين، لوجدوا فيها شرشاً يعود أصله إلى طريقة عمل مخابرات الأنظمة العربية البائدة تجاه القضية الفلسطينية، فحينما كان الزعيم الراحل ياسر عرفات يصل إلى حد المواجهة مع حافظ الأسد، كانت أجهزة أمن الأخير تشن حملات اعتقال ضد فلسطينيي المخيمات في سوريا متهمة إياهم بأنهم “عرفاتيون”! وفي الوقت نفسه كانت تطلق شائعات تسخر من عرفات، وتهزأ في طريقها من عموم الشعب الفلسطيني “الذي باع أرضه”، و”يعيش على حساب السوريين”، و”يكدس أفراده الأموال”، بينما يعيش مضيفوه الفاقة والفقر!
ولهذا ولتلك الأسباب يصبح عقد اتفاق مع إسرائيل، والتطبيع معها، بحسب مثقفي بن زايد، تأديباً لهؤلاء ناكري الجميل!
مشكلة عدم وجود السياق الذي يضفي لجهة تطوراته وتفاصيله شرعية على الخطوة، سترتد على أصحاب الاتفاق، وستعيد الموضوع إلى عتبة الأسئلة التي لا يجد أصحابها جواباً لها؛ كيف لدولة لم تخض حرباً ضد “عدو” أن تعقد اتفاق سلام معه؟ وكيف يمكن المضي في علاقات طبيعية مع دولة لم تكن جزءاً من تكوين المنطقة؟ وكيف يمكن تمرير ثقافة التواصل مع من شكلت أفعالهم (الاحتلال وتهجير السكان) مثالاً لصناع الخراب في ذاكرة المنطقة؟يراهن بن زايد على أن ثقافة الانفتاح التي يعمل وفقها، ستشكل جداراً في وجه الثقافات الراسخة داخل بلاده وفي المحيط العربي، فالرجل عدو للحركات الإسلامية بكل أشكالها، ولديه كره عميق للأيديولوجيات السائدة، ولهذا لا يصعب علينا تصور أن فكرة التطبيع ومن الناحية الثقافية ستكون محمولة لديه على موجات الانفتاح ذاتها! ولكن هل يدرك هو وغيره أي منعطف سيعبرون؟
من حيث الفكرة، مسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني، هي جزء من الهمّ العربي عموماً، والهمّ الثقافي الذي تعيشه النخب الثقافية العربية خصوصاً، وهي في الوقت نفسه منعطف حاد يجب على أي مفكر أو كاتب أو فنان أو شاعر أن يعلن موقفه منه أمام الجمهور.
لقد كانت العلاقة مع إسرائيل قضية وجودية، وهذا الأمر لا علاقة له بالتوجهات السياسية للحكومات العربية، بل هو وريد عبرت فيه ومعه قضايا عربية شتى في عمل ونتاج النخب، باتجاه الجمهور العربي وغير العربي.
ولهذا بقيت كلمة فلسطين أقوى وأبقى لجهة الحضور، من أي تعبير يمر في السياق، وإذا كان للكلمة هذه من حمولة مفردات أخرى، فإنها ستكون كلمات ذات حمولة صارخة مثل: انتفاضة، أطفال الحجارة، انتفاضة الأقصى، الكفاح المسلح، إلخ. وأيضاً أسماء لا يمكن للذاكرة العربية أن تنساها، تشكل قافة طويلة من الشهداء، قد تبدأ بعز الدين القسام، وبالتأكيد لن تنتهي بمحمد الدرة!
الذاكرة بهذا المعنى هي المشكلة في خطوة بن زايد “الاستثنائية”، لقد أراد صناعة ذاكرة مفصلة على مقاس خطوته التطبيعية، عبر الهجمات الشنيعة التي شنها مؤيدوه، ولكن ذلك لم يمنع المثقفين الإماراتيين الذين لم تنطلِ عليهم بهلوانيات سياسته، من أن يعلنوا موقفاً مضاداً لما يفعله، ففند هؤلاء في البيان الذي أعلنوه قبل أيام ضد التطبيع مخالفة هذه الخطوة للدستور الإماراتي وللقانون الاتحادي بخصوص مقاطعة إسرائيل، ووضعوا مواطنيهم أمام الأسئلة ذات الزوايا الحادة، فجاء في سياق البيان قولهم: “كما أن التطبيع هو اختراق للأمة في ثقافتها وقيمها واقتصادها وإعطاء العدو غطاءً رسمياً، وهو ما يدفع للتساؤل: ما هي المكاسب التي حصلت أو ستحصل عليها القضية الفلسطينية والإمارات في المقابل من هذه الاتفاقية؟”
يدرك هؤلاء أن محمد بن زايد ليس لديه جوابٌ فعالُ يقنع به أفراد الشعب الإماراتي، ولكن من قال إن مسألة الإقناع في دولة تحاول محاكاة أسوأ الأنظمة العربية قمعاً وإرهاباً لمواطنيها تحتاج لسعة صدر وحكمة؟
يحيلنا من أعلنوا البيان إلى واقع الإمارات اليوم حيث “لا يوجد في الإمارات أي هامش لحرية التعبير عن الرأي، وكل من يعارض سياسة الدولة فإنه عرضة للتنكيل والسجن وتلفيق التهم الباطلة”
وتبعاً لهذا فإن السياق الوحيد الذي يمكن التقاطه هنا يقول: إن دعماً غير محدود لثورات مضادة أودت بأحلام شعوب بأكملها بالحرية والديموقراطية، لا بد سيؤدي إلى الالتصاق سراً بالإسرائيليين صناع الدمار الأول في المنطقة، ثم الارتماء في أحضانهم علناً، فمنهم بدأت الحكاية وعندهم تنتهي!
*المدن