علي سفر: تصحيح أوصاف البيئة الحاضنة

0

من غير المفيد للباحثين العاملين في مراكز الدراسات التابعة للنظام، وعلى قلة الاثنين، أي الباحثين والمراكز، أن يحاولوا مرة أخرى إيجاد تعريف، وإيضاح معنى عبارة “البيئة الحاضنة”!

فبعد عقد من حدث الثورة، بحسب الثائرين، ومن وقفوا في صف الشعب السوري أيضاً، بات من الصعب على مؤيد، لم ير في الحدث سوى ما ردده الإعلام الرسمي على مسامعه، الاقتناع بأن الذين قصفهم النظام يومياً بحجة كونهم بيئة حاضنة للإرهاب، ليسوا كذلك، وإنما هم بشر طبيعيون، ولم يكونوا في يوم ما وحوشاً، بل كانوا ومازالوا سوريين، مثلهم مثله!

في مسار التسويات التي قام بها النظام، كان على مؤسساته الإعلامية أن تعيد منح الصفات الإنسانية لأولئك الذين وافقوا على شروط الصلح، في خطوات أولى باتجاه إعادة دمجهم في الآلة الحربية، فعبر صورة هناك، وتصريح هناك، كانت الكاميرات تنقل مشاهد تجمع محاربي الفصائل المهادنة ببعض الإعلاميات العاملات في قنوات التلفزيون الرسمي وبعض القنوات الممانعة، وتلك التي تحوز رخصة للعمل على الأرض.

آنذاك، ضاعت الفكرة التي تمحص بما يجري، في خضم تناقضات في الصور، بين “المتشددين” أو “السلفيين”، وهما تعبيران سائدان في عالم المؤيدين، وبين الفتيات السافرات، اللواتي يقفن بجرأة ودون خوف مع الرجال الملتحين، بحماية عسكر الأسد وعناصره الأمنية. فانساقت وكالات إعلامية إلى “اللقطة” الفجة، وكرستها بوصفها تحولاً، سيأخذ حيزاً من الاهتمام العام، خاصة إذا تم إرفاقه بعبارات تتحدث عن تعب المتحاربين، وميل الجموع إلى السلام!

التركيز على حاملي السلاح لم ينسِ البعض ضرورة الالتفات إلى أهاليهم، سيما وأنهم لم يكونوا حاضرين في الأفلام التي تم تصويرها ضمن الاحتفالات العامة بعودة الأمن والأمان إلى المناطق التي “استسلم” مقاتلوها، إذ كيف يمكن إقناع الجحافل التي اجتاحت بيوت المغادرين والغائبين السابقين ونهبتها، بأن من بقوا في بيوتهم، سيحتاجون رعاية مؤسسات النظام، وحماية أمنه، وعلى الأقل كف بلاء المتربصين بهم من الشبيحة والزعران واللصوص؟!

صحيح أن إدارة هؤلاء لا تحتاج فعلياً لجهود خارقة، بل لزجر وقمع، رأينا نماذج عنه في إلقاء الشرطة العسكرية الروسية القبض على بعض السراق من الجنود والضباط بالجرم المشهود، وإذلالهم أمام الكاميرات.

غير أن الأمور لا تدار في سوريا الأسدية على هذا النحو دائماً! بل سيحتاج الأمر إلى جهود “علمية” تتسرب نتائجها من مخابر ومختبرات الأمن الفكري، فتُحدث بعض الزكام، وبما يكفي لأن يطبع الأسدي علاقته بغيره، بما يظهره في حالة طبيعية، بمعنى أنه قد يتقبله، وقد لا يفعل، ومن أجل هذا يجب أن يتم وضع الاثنين على أرضية واحدة، مع كثير من التثقيل والتجريم للثاني، وبما يبرر للأول كل ما يمكن أن يفعله.

هذا ما فعلته على سبيل المثال لا الحصر الدكتورة إنصاف حمد المدرسة في جامعة دمشق وعضو مجلس إدارة مركز مداد، حينما نشرت دراسة على موقعها بعنوان “مفهوم “البيئة الحاضنة للإرهاب”: قراءة نقدية”، حيث عرفتها بأنها “بيئة اجتماعية قد تقوم في حيّز جغرافي محدد، وتشكل سياقاً يساعد على نشوء وانتشار وتفاعل أفكار وسلوكيات الجماعات والأفراد الذين يتبنون فكراً تكفيرياً متطرفاً، ويتوسلون العنف طريقة وطريقاً لنشره والسيطرة من خلاله”، لكن زبدة قول الباحثة التي كانت أيضاً جزءاً من المجلس الاستشاري النسائي الذي شكله المبعوث الدولي السابق ستيفان ديمستورا، جاء في تفصيلها بين ثلاثة مستويات لهذه البيئة؛ “بيئة مولّدة للإرهاب” و”بيئة متقبلة له أو متعاطفة وغير مقاومة” و”بيئة مشغّلة ومصنّعة لجرثومة الإرهاب في البيئتين السابقتين”، وبعد الشروحات التفصيلية التي حاولت الباحثة المؤيدة من خلالها وضع أسباب للانفجار الذي حدث في عام 2011، لا تبتعد عن رؤى وأقوال كررها بشار الأسد غير مرة، تنتهي بالقول: “لا يمكن الحديث باطمئنان وثقة عن وجود بيئات حاضنة للإرهاب بالمعنى الدقيق للكلمة، فالمؤشرات تدحض دقة مثل هذا القول، وإن كانت لا تنفيه بالمطلق، والتبصر والتدقيق في الاستخدام يمكنه أن يمنع التوظيف السياسي لهذا المفهوم وما يمكن أن يحدثه من شرخ بين السوريين، ولعل التعامل الواعي للحكومة مع الخارجين من هذه المناطق مؤشرٌ على التبصر بضرورة اعتماد سياسة الاحتواء، وهي سياسة تتطلب خططاً على المستوى الوطني لنزع أي فتيل يمكن أن يتسبب في مثل هذا الشرخ في وعي أو لاوعي السوريين”.

المحاولة السابقة لتصحيح أوصاف البيئة الحاضنة للإرهاب، لا تبدو مفيدة، فهي تتضمن في مساراتها تسويق رؤية النظام لشرائح كاملة من الشعب السوري، والفقيرة منها على وجه الخصوص، وجعل التوجه صوب العنف بعد الاقتران مع الفقر والعوز الشديد، ميزة أو صفة لهذه الجموع، دون إظهار المحفزات السلطوية أو الحكومية، وإغفال دور عنف الدولة في خلق العنف المضاد، وتوصيف أي حراك سياسي تطور عنفياً، بأنه جزء من “شجرة الإخوان المسلمين”!

وهي أيضاً تشتمل على فعلين يتضمنان عنفاً لفظياً، بمعانٍ لا أخلاقية، الأول وهو وصم الآخرين بالصفات المسبقة والتي يتضمنها التعبير الأساسي كحاضنة وحواضن، إضافة إلى اشتقاقه من البيئة المختبراتية، حيث تتم زراعة الجراثيم في مستوعباتها، والنظر في تطورها، وتجريب أنواع المضادات من أجل قتلها، وهنا نتذكر خطاب رأس النظام الذي أطنب فيه بالحديث عن الجراثيم!

والثاني هو تنميط فئات كاملة من السوريين، رفعوا السلاح دفاعاً عن أنفسهم، في غالب الأحيان في وجه سلطة غاشمة، وجعلهم إرهابيين، اعتماداً على كونهم ينتمون إلى الطائفة السنية.

ولعل أهم ما يفقد هذه المحاولة فائدتها، ويجعلها مجرد تفصيل في سياق يؤثم أعداء النظام، أنها تربط مصير البيئات التي تتم دراستها برؤية النظام وقراراته، وطبقاً لهذا، فإن أهالي درعا البلد، الذين يعلن النظام حربه في المدينة من أجل حمايتهم، يتحولون من بيئة حاضنة إلى ضحايا للعصابات الإرهابية، ثم سرعان ما يتم توجيه المدافع والصواريخ ضدهم، في تكرار فاجر، لما جرى طيلة عقد كامل من الاعتقالات، والمجازر، والتهجير.

*المدن