علي سفر: تاريخ موازٍ يكتبه الناس

0

لطالما قِيلت عبارة “التاريخ يكتبه المنتصرون” في سياق البحث عن طرق وأساليب تدوين الوقائع التي تتحدث عن الآخرين، الذين هُزموا، وباتت روايتهم للأحداث غير متاحة، لأسباب شتى.

 أولها قيام الفائزين بمحو كل ما يخص الخاسرين، والإضافة على ذلك عَبْر تشويه صورتهم، وشَيْطَنَتهم في كثير من الأحيان.

وثانيها ميل الجمهور إلى الِانْدِغام بشخصية المنتصر، وذلك من أجل دَرْء شره، وتعديل الانكسار النفسي وغير المحسوس تجاه فكرة الهزيمة، فهؤلاء رأوا أولئك المهزومين، وتساءلوا ما الذي سيحصل بنا لو كنا مكانهم أو معهم؟! ولم يجدوا جواباً سوى الرفض الضِّمْني للفكرة ذاتها، والافتراض بشكل مسبق أنهم كانوا في الأصل في جهة مَن بات لديهم الحل والربط!

تحليل هذا المعمل النفسي المُعقَّد شاقّ وكبير، وما نقوله هنا إنما هو محاولة اختصار لا أكثر، لا تدعي تدخُّلها برؤية المختصين النفسيين، لكنها تتجاسر صوب جعل مسألة كتابة التاريخ عمومية أكثر من مجرد إحالتها إلى مؤرخي السلطان، إذ إن شعبه أي مؤيديه يساهمون بقدر غير بسيط في تزوير الحقائق، كما أن كل مَن يدور في فَلَكه، سيروي قصصه الذاتية، وَفْق التكنيك الذي يدمجها في سياق سَرْديَّة الحاكم، فيكتب الروائي روايات عن انتصاراته، ويفترع الشاعر الكلمات في قصائد حبه، وتمجيد أفعاله.

وكذلك يفعل المطرب، الذي يستطيع أن يسيطر على المَطْرُوبين بصوته وألحان أغنياته، فيغني له في كل مهرجان محليّ، ويذهب إلى زيارته أثناء قيامه بقتل شعبه، ويقابل شقيقه، ويحل ضيفاً على رؤساء أفرعُه الأمنية، ويخرج في المقابلات التلفزيونية ليؤكد انتصار الحاكم، ومع قليل من تصديق الذات والثقة الزائدة، لن تنقصه الوقاحة، ولن يمنعه الخجل، من أن يقوم بشتم زملائه، الذين لم يبقوا مثله، وقرروا ألا يوافقوا الديكتاتور على سياسته، فنطقوا بالحق ضده!

وعلى سبيل المثال، ودون أن نشاهد السلسلة التوثيقية التي تروي حياة جورج وسوف المطرب الجماهيري، ندرك أنها وإن حكت عنه كشخص، إلا أنها لن تستطيع أن تضع مواقفه في السياق الذي نتحدث فيه، ولا أن تفرض على المشاهدين تعديل ما يعرفونه، ليس عن حياة الوسوف، بل عن جعل الإبداع ستاراً لمنع الاصطدام بالحقيقة!

تعظيم القاتل، ومنحه الأوسمة المعنوية يأتي عَبْر أمثال هؤلاء، ممن يصنعون شبكة أمان له، في وَعْي الجمهور البسيط، الذي يصدق ما يقوله النجم المحبوب، الذي يقود أحاسيسهم في حيواتهم العاطفية العامة واليومية الخاصة!

ولكن، ولحُسْن الحظ، ثَمَّة كتابة مُوازِية للتاريخ، تتأتى من الأرضية ذاتها، يقوم بها آخرون، لا ينكرون على النجوم نجوميتهم، ولا على المبدعين إبداعهم، لكنهم وبقدرة مَبْعثها الجرأة أولاً، والسعي لئلا يلتصق بهم قارّ العار الثقيل، ينكرون عليهم أخلاقهم، ويضعون سبّابة اليد اليمنى في وجوههم، كناية عن دَوِيّ صوت الاتهام!

نعم، لم تَعُدْ لدى الديكتاتور كليَّةُ القدرةِ على تسطير الحقائق على مزاجه في كتاب التاريخ. وحتى لو صدق نفسه، وذهب في الأمور إلى نهاياتها، في زماننا الحالي، وجعل من هذا الأمر هدفاً لوزاراته ومؤسساته، وجلب الخبراء لكي يدربوا مريديه وإمَّعاته على تحسين قدراتهم على الكذب، ولعق أحذية جنوده التي خاضت في الدم!

حتى ولو حصل كل هذا، فإنه لن يتمكن من مَحْو التاريخ الموازي، الذي يرى الناس فيه الوقائع بشكل مختلف، فهي تعرف كيف صار رجاله عبيداً في حاشيته، وتمتلك أصل القصص وفصل الحكايات عن هذا وذاك، وتوثق بأدواتها البسيطة ماذا حصل وكيف ولماذا، ومَن دعم، ومَن مانع ومَن جعل الأمر ممكناً! ورغم أن ما يعرفه الناس لا يلقى قبولاً لدى الإعلام ولا يصادق عليه الباحثون طالما أنه لم يُوثَّق، إلا أنه يترك دائماً فرصة للتشكيك بسَرْديَّة السلطات والأنظمة، ولاسيما إذا كانت من مَقاس النظام الأسدي، ومَن يُشبِهه في شرقنا المتداعي.

*نداء بوست