علي سفر: بين ثقافتَي الاعتذار والمذبحة.. لا فرصة للسوريين

0

يثير اعتذار هولندا لعائلات ضحايا مجزرة سربرينيتسا البوسنية، في الذكرى الـ27 لارتكابها على أيدي القوات الصربية العام 1995، الكثير من التداعيات والذكريات في آن معاً، لمن عاش القصة، ولم يتخلص من آثارها في عقله ووعيه، حتى الآن.
إذ إنّ محاولة الحصول على الغفران عن تقصير القوات الهولندية في حماية آلاف البوسنيين الذين ذهبوا ضحية المذبحة، وبما تتضمنه من إقرار بالذنب، احتاجت كل هذه السنوات قبل أن تصبح قابلة للإعلان والإقرار، وهذا يقود إلى البحث عن الأسباب التي منعت أصحاب المسؤولية من الاعتذار طيلة الفترة الماضية.

لنتخيل أن طفلاً ولد في اليوم السابق على المذبحة، من دون أن يعرف من هو المسؤول المباشر عن قتل والديه في اليوم التالي، وقد بلغ الآن من العمر 27 سنة، سمع خلالها الكثير من التفاصيل والتحليلات التي تحاول فهم ما جرى، لا لجهة من قام بفعل القتل، إذ إن القاتل معروف ومسمّى، بل لجهة الأسباب التي جعلت القوات الدولية تعجز عن حماية المستجيرين بها والذين صاروا ضحايا، بعد إعلانها المنطقة آمنة من قبل الأمم المتحدة؟!

هنا في غضون التفاصيل المتراكمة خلال عشرات السنوات، نشأت ثقافة شخصية، يمتلكها كل من له علاقة بهذه القصة أو بغيرها من القصص المشابهة، هي ثقافة المذبحة، سوف تكبر فيها شياطين الحكايات الحالكة، عن بشر تم سوقهم إلى الإبادة، أمام عيون العالم، وستتقنع وجوه كل من يرد اسمه في السياق بأخرى مستعارة من الآبار العميقة التي لا يخرج منها سوى ماء عكر، تأتي به الدّلاء مع كومة من الأفاعي السامة. وفي منتصف السردية السوداء يمكن العثور دائماً على بشر تم الغدر بهم، بعد ظنهم بأن المجزرة غير قابلة للحدوث، لأن العالم لن يسمح بها! لكنهم كانوا دائماً يصبحون ضحايا لجريمة مركّبة، تتضمن وجود قاتل يتعطش للدم، ولا يكف عَنِ الآثَامِ أمام القوانين والتعهدات والاتفاقيات، ووجود جهة لا تؤدي الدور الموكل إليها وهو حماية المدنيين/ الضحايا.

هل شعر أحد بالرعب من مشهد قتل الآلاف، في عتمة غابات سربرينيتسا، حتى صار الليل كلما هبط على الأشجار المتكاثفة يعيده دائماً إلى صورة الفجيعة؟ ربما، لكن علينا، ونحن نستذكر تاريخاً آخر من المذابح التي جاءت بعد مذبحة سربرينيتسا، أن آبار المجازر تفيض دائماً وأبداً بصور القتلة الذين لا يغادروننا، حتى وإن مر وقت طويل على حدوثها! وأن هؤلاء يمضون في حيواتهم، من دون أن يحظى الضحايا بالعدالة!

في القصة البوسنية، وهذا جزء من حوامل الاعتذار الهولندي الذي قدمته وزيرة الدفاع الهولندية كاجسا أولونغرن خلال مشاركتها في إحياء ذكرى المجزرة، تمت محاكمة عدد غير قليل من المجرمين الصربيين المشاركين في الجريمة، من القادة والأفراد، لكن أحداً من المسؤولين عن العجز والإهمال الذي أدى إلى ارتكاب المذبحة لم يُحاكَم. فلولا وجود الإحساس بالتساهل والرخاوة، لما أقدم القتلة على هذا الفعل الفاجر! وعلى هذا، يمكن اعتبار القوات الهولندية شريكة في الفظاعات من بوابة الإهمال والتقاعس وعدم التدخل! لقد امتلك المجرمون الصرب شعوراً بأنهم سيفلتون من العقاب، طالما أن القوات الهولندية لن تتدخل لحماية البوسنيين، ما جعلهم شركاء في ما حدث، وطيلة السنوات الفائتة ركزت المنظمات الحقوقية على سافكي الدماء ولم تمتلك الأدوات لمحاسبة المراقبين على تركهم قطعان الضباع تنهش أرواح المقتولين. إذ ما زال التقاضي الذي تمضي فيه عائلات الضحايا، لا سيما جمعية “أمهات سربرينيتسا” التي تمثلهم، بعيداً كل البعد من الوصول إلى غايته. فقد حمّلت محكمة لاهاي قبل خمس سنوات، الحكومة الهولندية، مسؤولية جزئية عن مقتل زهاء 300 شخص فقط من ضحايا المذبحة، قامت الكتيبة الهولندية بتسليمهم للصرب، بينما لم تحملها مسؤولية آلاف المقتولين الآخرين، مبررة ذلك بالقول أن ليس كل الضحايا احتموا بمقر كتيبة الأمم المتحدة، بل منهم من “فرّ إلى الغابات القريبة من سربرينيتسا”.

أما في القصص الأخرى الراهنة، والتي تحتوي على عناصر بنيوية مشابهة، حيث مازال الضحايا بعيدين جداً من الحصول على العدالة، فإن الاعتذار الهولندي الرخو، سيبدو وكأنه قادم من عالم خيالي غير واقعي. إذ لا وجود لثقافة الاعتذار عند أي دولة إقليمية أو كبرى، في الزمن السوري المستمر حتى الآن، رغم أن كل دول العالم راقبت المذابح التي ارتكبت في سوريا، وكانت تدري أن عدم التدخل لإنقاذ المدنيين سيؤدي إلى حدوث أخرى!

فإذا كان وضوح ما جرى في البوسنة، قد احتاج إلى ثلاثة عقود تقريباً ليتحول إلى اعتذار، فإن الكوارث التي جرت في سوريا، مع التجاذبات الإقليمية والدولية، والتدخل الدولي لصالح الأطراف التي تمتلك السلاح، وحملات التضليل، قد يجعل الحصول على اعتذارات مشابهة شيئاً مستحيلاً، مع أن المقومات المتوافرة في كل حادثة جرت هنا، تدحض وبما لا يشوبه الشك، أي ادعاء بعدم الوضوح.

إذاً، نحن أمام تجاذب حسي وشعوري هائل، بين ثقافتي الاعتذار والمذبحة، يتأتى من أن التكوين المثالي لمعنى الغفران، لا يفيد الضحايا، الذين صاروا رفاتاً، ولا أهاليهم الذين يبكونهم بحسرة مترافقةً مع اضطراب نفسي ومادي يرخي بظلاله على العالم كله، يتسبّب به استمرار المجازر الذي يؤدي إلى موجات اللجوء والمجاعات، والاضطرابات في غير مكان.

يسأل واحدنا؛ ما قيمة أي اعتذار، لا تسبقه المحاسبة؟ ولا نتوقع إجابات حقيقية، طالما أن العيون مغمضة، والآذان صمّاء، والأسلحة ما زالت تفعل فعلها وتوغل في الدماء.

*المدن