علي سفر: برقية كوهين الغريبة: استثمار إسرائيلي متكرر وصمت أسدي مُريب

0

تقول واحدة من الروايات المتداولة عما حدث، حين اقتحمت قوة أمنية سورية بقيادة العقيد أحمد سويداني، شقة إيلي كوهين المجاورة لمقر هيئة الأركان في دمشق: إن الجاسوس كان يقوم بإرسال رسالة ما إلى قادته في الجهة الأخرى، ويحكى أن الذين حققوا معه حاولوا استغلاله، عبر جعله يرسل رسائل مضللة للجانب الإسرائيلي، لكن رداً لم يأت، إذ عَرفَ الأخير بسقوط عميله، من خلال الرسالة الأخيرة التي أرسلها، حيث أن طبيعة التشفير التي كان يكتب بها، أفادته في إعلان تعرضه لخطر المداهمة، ويروى أنه كان يكتب آخر الكلمات بطريقة مشوشة في العادة، لكنه في تلك المرة كتبها بطريقة صحيحة، فوصلت رسالته المتفق عليها!

تبعاً لهذه الروايات، لا يمكن التعاطي بجدية مع الصورة التي نُشرت، الإثنين، بوصفها البرقية الأخيرة لكوهين، وذلك لسببين واضحين. أولهما أن الإسرائيليين ما برحوا ينشرون ويعلنون كل حين وآخر عن شيء يخص الجاسوس الذي أُعدم في دمشق في العام 1965، وكأنهم يريدون إبقاء قصته حاضرة أمام الإعلام، مع مطالباتهم الدائمة للجانب السوري بتسليم رفاته، والتي يقول سوريون إنها مفقودة. إذ نتذكر أن نتنياهو، العائد إلى السلطة الآن، سبق له، وضمن سياق معاركه السياسية الداخلية، الإعلان عن قيام الموساد بعملية استخباراتية طويلة للحصول على “ساعة كوهين”، ساعته فقط وليس ما بقي منه (تخيلوا)!

هشاشة القصة الواضحة، تظهر ثانياً، من الطبيعة الترويجية والتسويقية للأمر، إذ أن الإعلان عن البرقية جرى، وبحسب وكالات الأنباء، في افتتاح رئيس جهاز “الموساد” ديفيد برنياع، متحف “إيلي كوهين” في مدينة هرتسليا القريبة من تل أبيب، حيث قال: “سأكشف للمرة الأولى، بعد بحث معمق أجري مؤخراً، أن إيلي كوهين لم يتم القبض عليه بسبب كمية الإرسال أو الضغط من المقر الرئيسي للإرسال بشكل متكرر، بل قُبِض عليه، لأن (العدو) اعترض رسائله.. هذه الآن حقيقة استخباراتية”. وتابع: “البرقية مؤرخة في 19 شباط 1965 يوم القبض عليه، حيث تحدث عن نقاش في هيئة الأركان العامة السورية بمشاركة الرئيس السوري آنذاك أمين الحافظ”.

يلاحظ المرء أثناء تدقيق التصريح، أن هناك مغمغة وعدم وضوح، ونفخاً في المحتوى الذي كان يرسله كوهين إلى الموساد. فبحسب برنياع، لم تكن المشكلة هي كثرة الرسائل، بل بما تحتويه! وهو هنا يحاول إبعاد التهمة الملصوقة بالجهاز من أنه هو من تسبب بإلقاء القبض على عميله، من خلال جعله يعمل فوق الحد المنطقي المطلوب لعمله، ورمي الكرة صوب السوريين الذين اعترضوا البرقية، ونظروا في محتواها، فثارت حميتهم، وقرروا إلقاء القبض على كوهين!

لكن، وقبل أن ينساق القارئ إلى الحيثيات الطريفة في التصريح السابق، فلننظر في محتوى البرقية المنشورة، حيث سيلفت الانتباه أن النص مكتوب بحروف الآلة الكاتبة وجاء باللغة الفرنسية، في ورقة رسمية مكتوبة باللغة العبرية، مروّسة بعنوان “سري للغاية”! وهذا يبدو غريباً جداً، لكن الأغرب هو المحتوى، حيث لا يتضمن أي معلومة خطيرة، إذ ما الذي سيخيف بعثيي سوريا آنذاك في خبر عن اجتماع  الرئيس أمين الحافظ بعدد من الضباط؟!

تبدو حكاية البرقية غير متماسكة، وكأنها مصاغة لتناسب الجمهور البسيط، الذي سيقتنع بها من دون تدقيق في محتواها! لكن هذا لا يمنع إعادة طرح بعض الأسئلة حيال كوهين الأسطوري وكوهين الواقعي.

فقد ظهرت دائماً عملية النفخ في الشخصية الأولى، من خلال تكريسه إعلامياً عبر الميديا، كما فعلت شبكة “نتفليكس” في مسلسلها الرديء “الجاسوس” الذي أدى فيه الممثل الشهير ساشا بارون كوهين، شخصية إيلي كوهين، وكما حاولت قناة “روسيا اليوم” حَلبَ لقطة غير واضحة، في مشهد عابر، لتجعل من الأمر اكتشافاً مهماً!

بينما حاول كثيرون النظر إلى الحكاية من خلال ما يتوافر من معلومات وإجراء المقارنات، للوصول إلى حقيقة ما جرى، وإعادة التدقيق في طبيعة مهمة كوهين، الذي كرر أمام المحققين والقضاة أنه لم يكن جاسوساً بل كان موفداً!

هنا في هذا السياق، نتذكر أن المصادر الرسمية السورية، لم تنشر حتى الآن أي وثيقة رسمية، بحسب علمنا، تحكي فيها عن الجاسوس الأشهر في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. فرغم أن البعثيين بثوا وقائع المحاكمة على الهواء مباشرة، وأن الصحافة نشرت الكثير من التفاصيل، وأن عملية الإعدام قد صُوّرت، وأن كتباً حررها “باحثون” قد نُشرت وتم تسويقها في المكتبات السورية، وأن القاضي العسكري صلاح الضللي الذي حاكم الجاسوس، قد دوّن مذكراته عن القضية، بالإضافة إلى قيام الرئيس الراحل أمين الحافظ بتوثيق روايته عن الأمر في برنامج قناة الجزيرة “شاهد على العصر”… إلا أن الوثائق الأصلية لم تُنشر، وهذا ما يدفع أصحاب الرواية الأخرى، إلى التأكيد على  أن مهمة كوهين لم تكن تجسسية فقط، بل استخباراتية استراتيجية، ذات طبيعة مختلفة، وهي البحث عن النازيين في دمشق، وعلى وجه الدقة رصد الضابط النازي ألويس برونر، الذي عمل في خدمة النظام السوري على مستويات مختلفة، وهذا ما ذهب إليه الروائي إبراهيم الجبين في روايته “عين الشرق”، والتي تم تكريس جزء غير قليل من المعلومات التي تضمنتها في سياق فيلم وثائقي استقصائي حمل عنوان “الجاسوس 88”.

وبالعودة إلى “وثيقة” البرقية، يمكن السؤال عما إذا كانت تفاصيل جديدة ستظهر في المستقبل، يثرثر بسببها ومن خلالها الإسرائيليون عن جاسوسهم المفضل، بينما يبقى نظام الأسدين صامتاً، وبما يؤكد أن السطور المخفية للقضية المبهمة تحكي ما هو أخطر من كل ما توقعه المتابعون!

*المدن