علي سفر: “اليرموك فلسطين الصغرى”.. هكذا خُلقت “أنا” مختلفة تحت الحصار

0

ثلاثة أفلام ملفتة، ظهرت حتى تاريخه، روت حكاية عاصمة الفلسطينيين في الشتات، مخيم اليرموك، في مأساته المعاصرة، التي هندسها وغرز أعمدتها ورصف حجارة جدرانها، نظامُ الأسد الذي لم يبنِ في سوريا إلا الخراب.

أول هذه الأفلام كان “شباب اليرموك” الذي حمل توقيع الإيطالي أكسيل سلفاتوري سينز، وتناول فترة تبدأ قبل الثورة السورية وتنتهي في العام 2013، وعالج فيه إلحاح الهجرة لدى الشباب الفلسطينيين، فانتهى إلى تصوير وقائع عاشها ناشطون في بدايات الحدث السوري، قاموا هم أنفسهم بتوثيقها، قبل أن تتبدد حيواتهم بين الهجرة الفعلية، وبين المصير المفجع لبعضهم، كالناشط الفنان المسرحي حسان حسان، الذي اعتقله حاجز أمني، واختفى أثره في السجون السورية، ليعلن لاحقاً مقتله تحت التعذيب.

أما الفيلم الثاني، من توقيع المخرج رشيد مشهراوي، فهو “رسائل من اليرموك”، وظهر في العام 2014، أي في مرحلة الحصار القاتل الذي فرضه الجيش والأمن السوريَين بالتعاون مع فصائل فلسطينية داعمة للنظام السوري، ومع شبيحة الأحياء المجاورة للمخيم. ويتتبع الفيلم معيشة المحاصرين، من خلال كاميرا الناشط نيراز سعيد، منطلقاً من تفاصيل ومعلومات وصور توضح طبيعة الصراع الحاصل في المكان، يحتاجها جمهور كبير متنوع في المنطقة العربية، لتصحيح ما كرسته في العقول بروباغندا الممانعة، وصولاً إلى تشكيل المشهد على حقيقته، من خلال عدسة صادقة، نعلم أنها كذلك، بالنظر إلى ما جمعته من حكايات حقيقية لأشخاص من لحم ودم ومعاناة، وأيضاً من خلال معرفتنا بالمصير الكارثي الذي لحق بصاحبها، الذي اعتقل أيضاً على حاجز أمني، وصار مصيره مجهولاً، مع وجود روايات تؤكد مقتله تحت التعذيب أيضاً.

أما الفيلم الثالث، فهو “اليرموك، فلسطين الصغرى” للمخرج عبد الله الخطيب، الذي نجا من الحصار، وخرج من السجن السوري الكبير، ثم وصل إلى ألمانيا، حيث يقيم الآن، ليصنع فيلمه، ويروي تجربته، كما عاشها هو، ومن خلال أحاسيسه، من دون أن يحتاج ناقلاً وسيطاً لها، يوصلها بطريقته إلى الجمهور كما حدث في الفيلمين السابقين، حيث كان بين من يعيش الحدث وبين الجمهور، مُخرجان اجتهدا في ما فعلاه، لكنهما لم ينجحا فعلياً، في التقاط عمق الارتجافات الشخصية لمن يمسك الكاميرا! 

صحيح أن هذا لم يلغ القيمة الكبيرة لما قدماه للعالم من سردية الفلسطيني، وهو يعيش مأساة مضاعفة عن شقيقه السوري. إلا أن وجود “الفلتر” الذي يشكله حضورهما إزاء الحدث المنقول عبر آخرين، جعل من الرواية أشبه بفعل الترجمة، حيث لا بد أن تتأثر شعرية النص بأفعال مطبقة على لغة الصورة؛ كحذف جملة وكلمة هنا، بزيادة فاصلة وعلامات استفهام واستغراب هناك!

التجربة التي يوصّلها عبد الله الخطيب في فيلمه من إنتاج مؤسسة “بدايات”، وحاز جائزة “التانيت الذهبي” للأفلام الوثائقية في الدورة 32 لأيام قرطاج السينمائية، وجائزة قناة TV MONDE 5، تستند في مكنوناتها إلى أمرين. أولهما، أن صاحبها امتلك، ومنذ ظهور اسمه إعلامياً، ملَكة أدبية ملفتة، قدمته إلى القراء من عتبة التجربة، والنص الذي يحاول الإحاطة بها، من دون أن ينساق إلى جعل اللغة أداة تأثير رخيصة، تثير المشاعر السطحية وتحرض على الأفعال الانفعالية. بل إن في الكثير مما تسرب عنه، ووصل إلى الصحافة السورية والعربية والغربية، ملامح جذابة، لكتابة طامحة إلى إنجاز معادلة خاصة، تجمع البساطة اللغوية بالثقل الكبير للوقائع التي تنطوي عليها المعايشة. وقد حصل عبد الله الخطيب على جائزة السويد لحقوق الإنسان، العام 2016، أثناء وجوده محاصراً في المخيم، فاشتهرت رسالته إلى لجنة الجائزة، لتُقرأ نيابةً عنه.

وثاني مكنونات الخطيب، هو المعايشة إلى أشد درجة، مع “الكائنات تحت الحصار” بحسب تعبيره، لا سيما منها الفئات الضعيفة، كالعجائز المرضى الذين يزورهم برفقة أم محمود الممرضة، فتحاول تقديم الدواء والإسعافات لهم. وأيضاً الأصحاء الذين يسعون إلى النجاة من الجوع القاتل، والأطفال الذين يحتلون مساحة كبرى في الفيلم، من دون إهمال أي من الوقائع التي تعيشها الجموع البشرية، وهي تحاول بكل الطرق كسر الطوق المفروض عليها، أو على الأقل تحصيل ما يسد الرمق، كي لا تهزم إرادتها أمام رغبة المجرمين الذين يحاصرونها في إبادتها وإنهاء وجودها. 
من هذه الزاوية ستتخذ فكرة “تصفية المخيم” أهمية خاصة في هذا الفيلم، حيث ستتردد على ألسنة الناس، ضمن سياق السردية المقارنة بين نكبة العام 1948، والتهجير الهائل الذي تعرض له الفلسطينيون من أرضهم، على أيدي العصابات الصهيونية، وبين ما تعرضوا له (يتعرضون له في زمن الفيلم) على يد نظام الأسد، الذي غلف قصته عن “إرهابيي” المخيم بشكل محكم ليقدمها للعالم، لا سيما لحلفائه الممانعجيين. لكن التلفيق لم ينطلِ على سكان المكان، الذي يمتلكون ذاكرة خصبة عن أفعاله (تدمير تل الزعتر، وحصار المخيمات في بيروت)، فرفعوا شعار “لا لتهجيرنا من المخيم”!
وسط الجدل الإبداعي الضمني الذي تحكم بعبدالله الخطيب، وهو يصوغ حكايته، ستقدم الكاميرا وهي تنقل إيقاعات البشر الهائمين بحثاً عن النجاة، صوراً فجة للواقع من دون تجميل. ومنها تلك المتصلة بلحظات ترقب وصول المساعدات الإنسانية، والتي عرف العالم بعضاً منها عبر الفوتوغرافيا ووكالات الأنباء، وها هو هنا يراها كفيديو، لعله يستطيع تفسير الأسى في ملامح وجوه المحاصَرين!

وكذلك سيوحي صوت المخرج وهو يقرأ بعضاً مما كتبه عما عاشه، بأن ترقب النهاية التي قد تأتي في أي لحظة وسط القصف والاستهداف ومعهما الجوع، لن يوقف الفلسطيني من مناكفة الواقع، وممارسة “الزعرنة” التي يتساوى فيها حضور الصغار بالتجاور مع كبار السن. ففي الحصار، وكما نراه ههنا، ستسقط اللياقات المجتمعية، وسيُخلق مقابلها نوع مختلف من “الأنا” العامة، تقوم على جلب السخرية والضحك حتى إلى لحظات الفجيعة، مروراً بالانشغالات اليومية في المشي على غير هدى، للتنقيب عما يؤكل وسط أعشاب الأرض وتحتها، والبحث عن الماء أيضاً، والانتهاء في خاتمة المطاف بلحظة حزن مديدة، قد تلخص في جانب منها، الحكاية كلها.

في وقت ما من زمن الفيلم، ستتركز كاميرا الخطيب وسط الشارع الطويل للمخيم، وستظهر في وسطه وبين ضفتي الخراب طفلةٌ ارتدت ثياباً أنيقة متناسقة؛ جزمة وقبعة باللون الأحمر، وتدفئ نفسها بمعطف باللون ذاته. ستعبر الطريق، وسيبقى المكان بعد خروجها من الكادر كالحاً، مسبوكاً بالرماد!
في رسالته إلى السويديين، المشار إليها أعلاه، وكجواب على سؤال صحافي عما يفعله في الحصار، كتب عبد الله الخطيب يقول: “أزرع الأمل على شكل خضروات في ما تبقى من مساحات محدودة صالحة للزراعة، أدرب الأطفال على التعلق بالحياة من خلال اللعب، أوثق المجزرة التي أنا جزء منها. أكتب تاريخنا كي لا يُنسى ونموت حتى بلا عزاء، أدرّس الطلبة مادة الفلسفة، أحدثهم عن كانط ومدرسته، أستعين به من دون وعي كي أقول لهم أنّ الموت أهون من غياب العدالة، أوثق الحقيقة كي تبقى راسخة في عقول أبنائنا الذين سيولدون حتماً وهم أحرار”!
وضمن هذا النسق من اليوميات، تتناسل عوالمٌ يوثقها صاحب الفيلم رغم قسوة موضوعه، فتصنع نسيجاً مضمونياً ناضجاً، لا يلهث وراء الإثارة، بل يقرأ ذاته على الملأ أياً يكن حاله، وهذا ما يتردد في النصوص التي رافقت الكاميرا، والتي يشار لها من خارج الفيلم بنص طويل للمخرج، حمل عنوان “قواعد الحصار الأربعون”! لينتهي الأمر بشعرية تحاول أن تمنح أوراق الذاكرة الفلسطينية والسورية حيال مأساة مخيم اليرموك، قليلاً من الماء والهواء والشمس كي لا تذبل وتتشتت في خزائن الزمن.

• تستضيف صالة LE STAR في مدينة ستراسبورغ-فرنسا، عرضاً لفيلم “اليرموك، فلسطين الصغرى”، بحضور مخرجه عبدالله الخطيب، الساعة 19،30، الأربعاء 23، شباط، وذلك بتنظيم جمعيات: (Culture de Palestine) ، (Alsace – Syrie)، (les Travailleurs Maghrébins de France – ATMF) (Ligue des Droits de l’Homme – LDH Strasbourg)، (France Palestine Solidarité Alsace – AFPS)، (Ambition Jeunesse)، (Initiatives Citoyennes Musulmanes)، (Femmes d’Ici et d’Ailleurs).

*المدن