علي سفر: الناشرة التركية بيرين موت:الموقف من الأسد..حدّ بين الأديب ونتاجه

0

تحاول الكاتبة التركية، بيرين بير سايغلي موت، أن تخلق مكاناً واضحاً للآداب العربية في المشهد الثقافي التركي، وقد اختارت من أجل ذلك، بالإضافة إلى جهودها الشخصية كمهتمة وباحثة، أن تصنع منصة لتقديم نتاج المثقفين العرب، وترجمته إلى التركية وبعض اللغات الأخرى، هي دار النشر فارابي كتاب، مع الإصرار على تطبيق معايير محدّدة، تجعلها تذهب إلى ضفة الكتّاب الذين عُرف عنهم رفضهم التماهي مع الديكتاتوريات، والاستزلام للأنظمة، بالإضافة إلى تركيزها على الأدب الفلسطيني بوصفه عنواناً للمقاومة.

مواقف بيرين، التي منحتها منظمة العدالة الأمركية وسام نزار قباني تقديراً لجهودها، لا تنطلق من خصوصية تركية، بل تضع نفسها في صلب الحالة السورية. ترى أن الأديب إذا سقط أخلاقياً، فلا فائدة من النظر إلى أدبه. وقد اشتهر موقف بيرين في الأوساط العربية عندما وجهت رسالة إلى الشاعر السوري أدونيس إبان مشاركته في مهرجان ثقافي أقيم في مدينة إزمير، تم تداولها بشكل واسع النطاق، بعدما نشرتها بلغتها الاصلية في إحدى الصحف التركية.

ملامح مشروع بيرن في مجال النشر بدأت تظهر في الأوساط المحلية، لا سيما بعد نشرها ترجمات عديدة لمؤلفات سورية، لخيري الذهبي ونوري الجراح وإبراهيم الجبين، وأيضاً بعد صدور كتابها “القلم والبندقية” باللغتين التركية والعربية الذي صنعت فيه بيوغرافيا لعدد من رجال الثقافة والإعلام الفلسطينيين، ممن تركوا بصمتهم في جدار القضية.

تتحدث بيرين لـ”المدن” عن اهتمامها بالقضية الفلسطينية، خصوصاً أنه سبق لها إصدار كتاب آخر هو “بين أشجار الزيتون، صور من أدب المقاومة الفلسطيني”، فتقول: “لفلسطين أهمية تجمع ملايين الأشخاص حول العالم في شعور مشترك. إنه اسم المشاعر المشتركة لأهل الخير. قد نسميها: عائلتنا البشرية الكبيرة. مثلنا جميعًا، كنت أعلم بما يجري من اضطهاد في فلسطين. في طفولتي كنت أشاهد لقطات الانتفاضة الأولى. وقد ذهب والدي وبعض أصدقاء والدي إلى فلسطين قبل ولادتي ومكثوا هناك مع المقاومين لفترة. نسبة كبيرة جداً من الشعب التركي تؤيد فلسطين. من الصعب أن ترى خلاف ذلك. على سبيل المثال، لم أرَ شخصًا هنا في حياتي يقول إنه يدعم إسرائيل. لكننا كأتراك، كانت لدينا مشكلة. كان دعمنا لفلسطين سطحيًا جدًا. لذا نعم، نحن مع الشعب الفلسطيني، نحن نحبهم كثيرًا. لكننا لا نعرف أدبهم. ومع ذلك، فإن الأدب هو أهم طريقة للتعرف على المجتمع. والأدب هو أهم قوة للمقاومة الفلسطينية. عاش الأدباء الفلسطينيون تحت ضغط كبير واغتيل بعضهم. لذلك أصبحت مهتمة بالأدب الفلسطيني. لأنني أحببت الأدب منذ أن كنت طفلة، وأردت معرفة المزيد عن قصص الكتاب الفلسطينيين. وقد عملت في هذا الشأن: أولاً، صنعنا فيلمًا وثائقيًا من 5 أجزاء. تم بث هذا الفيلم الوثائقي عبر قناة TRT، وتحدث عن 5 كتّاب ومبدعين فلسطينيين: محمود درويش، ناجي العلي، غسان كنفاني، فدوى طوقان وسميح القاسم، ثم كتبت كتابي الأول. وأردت التركيز على فترة أثارت اهتمامي كثيرًا، الثورة الفلسطينية الكبرى 1936-1939. وبعد العمل حوالى خمس سنوات، كتبت كتابًا عن هذه المرحلة. وخلال هذه الفترة، صادفت العديد من القصص التي أثّرت فيّ كثيرًا. قصص بشرية. قصص أهل الكرامة”.

نتوقف عند مشروع “فارابي كتاب”، وهو اسم دار النشر التي جعلت منها بيرين منصة تثاقفية مشتركة بين الثقافتين التركية والعربية، ونسألها عما تتوقعه منها، فتقول: “لطالما كان حلمي إنشاء دار نشر. في الماضي، عملت أيضًا كمحررة في بعض دور النشر، وأردت أن تكون لي دار نشر خاصة بي لأن هناك كتباً أردت نشرها. تعمل دار النشر لدينا على ترجمة كتب كبار الكتاب من الأدب العربي، خصوصاً من سوريا وفلسطين، إلى اللغة التركية. ولدينا بعض الخطوط الواضحة جدًا عندما يتعلق الأمر بالنشر. بادئ ذي بدء، لا ينبغي أن يُنظر إلى النشر في هذه الجغرافيا، حيث أُريقت الدماء لمئات السنين، على أنه مجرد نشاط فكري. إن مهمة الناشر، بصرف النظر عن التوسط في ترويج الأدب الجيد، هي الدفاع عن كرامة الإنسان. إدواردو غاليانو الذي أحبه كثيراً، قال ذات مرة: نجلس هنا نراقبهم وهم يقتلون أحلامنا. الهدف الأكبر للنشر هو حماية ونشر الأحلام، أي أنقى وأرقى أشكال الأدب، وأكبر موضوع لها هو الكرامة الإنسانية. في الواقع هذه مهمة بسيطة للغاية وليست صعبة ومعقدة على الإطلاق. المجتمعان العربي، والتركي، مجتمعان جريحان للغاية. لقد عانيا من العديد من الأمراض في الماضي واليوم. كلاهما سقط من الجرف نفسه معاً. وبطريقة ما، هما يطبّبان بعضهما بعضاً. وفوق كل شيء، هما وصيّان على قلاع بعضهما البعض، أي حماة شرف بعضهما بعضاً! من الممكن تلخيص الغرض من دار النشر لدينا في كلمة واحدة. الشرف والأدب! نحن نعمل على الترويج لأعمال الكتاب العظماء من سوريا وفلسطين والدول العربية الأخرى الذين لا يتخلون عن شرفهم رغم الثمن الباهظ. نحن ندعم مقاومة الشعب الفلسطيني ضد الصهيونية، ومقاومة الشعب السوري ضد الديكتاتورية البعثية الوحشية والمتعاونين معها”.

تضيف بيرين: “نحن لا نترجم أو ننشر كتب أي مؤلف يدعم بشكل مباشر أو غير مباشر الصهيونية ونظام البعث. لأننا إذا فعلنا ذلك، فإننا لا نخون الإنسانية فحسب، بل نخون الأدب أيضًا. لماذا يوجد أدب؟ يُقتل الأطفال ويعذّب الناس ويلقون بهم في الأبراج المحصنة. هل يمكن للأدب الحقيقي أن يصمت في مواجهة هذا؟ لسوء الحظ، فإن القراء الأتراك معرضون جدًا للخداع في هذا الصدد. القراء الأتراك لا يعرفون ما يكفي عن مواقف الكتاب في العالم العربي تجاه القمع. شخصياً، كان هذا حافزي الأكبر. لأن هذا ما لا يمكنني قبوله أبدًا. هل يمكنك أن تتخيل أن كتب مؤلف مثل خيري الذهبي، الذي أمضى حياته يدفع ثمناً باهظاً لكنه لم يقامر أبداً بشرفه للحظة، لم تترجم إلى التركية حتى الآن؟ لكن 10 كتب لشاعر بذل قصارى جهده للتشهير بمقاومة الشعب السوري، تُرجمت في تركيا. ومنذ العام 2011 ما زالت تُترجم. هذا هو الوضع الذي يدمرني عاطفياً. هذا الظلم العظيم يؤلم قلبي كثيراً، ولدي الرغبة في القتال إلى الأبد مع كل من تسبب في هذا الوضع… لدينا دعم معنوي هائل. ونحن متفائلون جدًا بمستقبل دار النشر لدينا”.

نسأل بيرين عمن يدعم عملها من الجهة العربية، مؤسسات أو أفراد؟ فتقول: “هناك عدد لا يحصى من الكتاب والصحافيين العرب الذين يقدمون الدعم المعنوي لعملنا. وبصرف النظر عن هذا، هناك مؤسسة نحصل عليها أحيانًا على دعم على أساس الكتب هي Global Justice Organization، هناك العديد من الكتب التي أعددناها للنشر. حالياً، تتم ترجمة 14 كتاباً. كتب مؤلفين عرب مهمين. حتى الآن، تلقينا دعمًا صغيرًا من هذه المؤسسة لكتابينا. لدفع أجور مترجمينا. ولهم كل الشكر”.

وبالعودة إلى كتابها “القلم والبندقية”، وبعد الإشارة إلى وجود تركيز على إبراز حيوات فئة مهمة من الشخصيات الفاعلة في الشأن الفلسطيني، تجمعهم مهنة الكتابة والثقافة والإعلام، وأيضاً المقاومة. نسأل بيرين عن أهمية هذه المعادلة، أي البندقية والقلم، أو السيف والقلم للقارئ التركي؟! فتقول: “لطالما لفتت انتباهي القصص البشرية. المغامرة البشرية تثيرني دائمًا. لهذا السبب، أحب التفكير في الأحداث الاجتماعية من خلال القصص البشرية، سواء أثناء القراءة أو الكتابة. عواطف الناس وردود أفعالهم تجاه ما مروا به، أنا متحمسة للغاية لمشاهدة كيف يمكنهم تجاوز حدودهم. لذلك، في هذا الكتاب، حاولت سرد قصص العديد من الأشخاص حول الشخصيات الثماني الرئيسية. كلهم كانوا أشخاصًا ولدوا في نقطة تحول مهمة جدًا في التاريخ. والغالبية العظمى من هذه الأسماء لم تكن معروفة في تركيا. قاوم البعض بمسدس، والبعض الآخر بقلم، والبعض الآخر، مثل نوح إبراهيم، بمسدس وقلم. لذلك دفعوا جميعًا حدود قوتهم. عند الاختيار، لم أقم بأي تمييز. لم أهتم أبدًا بأديانهم. الشيء الوحيد الذي أثار اهتمامي هو أنهم اجتمعوا من أجل قضية مشتركة وحاول الجميع بذل قصارى جهدهم… يقال إن النسيان يشفي دائمًا. يقولون إنه كلما بدأت النسيان مبكرًا، كان ذلك أفضل. التذكر هو أعظم شفاء. لهذا السبب أردت أن أتذكرهم. لأن قصصهم تحمل معنى عظيمًا ليس للأمس فحسب، بل لليوم أيضًا”.

*المدن