قبل سنتين أو أكثر، تواصل معي أحد المثقفين، ممن يحسبون أنفسهم على المؤيدين العاملين في مؤسسات النظام الإعلامية والثقافية، بهدف مساعدتي وآخرين من الكتاب المعارضين على تسوية أوضاعنا، والعودة إلى “حضن الوطن” -بحسب توصيفه- معززين مكرمين!
لم أناقش الرجل في مساعيه، بل شكرته عليها، بعد أن قلت له إنني لا أريد العودة، لأن المسألة ليست شخصية، وإن ما كنا نسكت عنه قبل الثورة، من ممارسات النظام وأجهزته، بذريعة الحفاظ على البلد، وعلى وجودنا فيها كمواطنين، لم يعد من الممكن الصمت حياله بعد أن باتت سوريا مسرحاً لأكبر مذابح العصر الحديث، وقد ارتكبتها زمرة حاكمة، تواطأ العالم وعقوله المافيوية على حمايتها.
لم يعد إلى دمشق أحد من الكتاب الذين طرح الرجل أسماءهم أمامي، وتحول هو ذاته بعد فترة وجيزة إلى أحد الأشخاص المغضوب عليهم، فيكتب في صفحته على فيس بوك، عن سوء التعامل معه في مؤسسات النظام، وعن جحود القائمين عليها بحق من عمل فيها قبلهم!
ما وصلني من محاولة هذا الشاعر، هو إحساس واضح بأن ثمة مساحة ناقصة في المشهد الثقافي السوري، قوامها؛ الأسماء التي غادرت بعد قيام الثورة، لا يمكن تجاهلها، ويتوجب استعادتها!
ولكن المحاولة بذاتها لا تعني شيئاً، طالما أنها مبنية على غض النظر عما جرى ويجري في سوريا كلها، وفي كافة طبقات وشرائح المجتمع السوري، وافتراض أنه يمكن حل إشكال هذه الفئة مع النظام، عبر استعادة أفرادها، من خلال العفو عنهم!
وفي جهة مقابلة للشريحة التي يمثلها هذا الشخص، ثمة فئة واسعة من المثقفين المؤيدين، الذين يشعر المرء بأنهم قد تنفسوا الصعداء بعد خروج المعارضين، فقد شكّل هذا فرصة لمحدودي الموهبة منهم للتمدد في المشهد شبه الفارغ، والحصول على المكاسب، والأعطيات!
وقد انعكس مثل هذا الوضع على السطح إنكاراً لوجود الآخرين، الذين لا يجب أن يتم تذكرهم، ولا حتى مرور أسمائهم في السياق!
وحينما يضج فضاء مشترك بين السوريين كشبكات التواصل الاجتماعي، بالترحم على أحد هذه الأسماء كالراحل ميشيل كيلو، لن يخفي هؤلاء المؤيدون شماتتهم، مع سعادة واضحة تقريباً، بأن المعارض الذي قضى في المنفى لم يعد حياً لوطنه، وأنه قد مات في الخارج ما يعني أنه قد فشل في مسعاه أي رحيل النظام، ولا يخفي البعض منهم رائحة القذارة التي تخرج من منشوراتهم، حينما يتمنون موت جميع المعارضين!
ما وصلني من محاولة هذا الشاعر، هو إحساس واضح بأن ثمة مساحة ناقصة في المشهد الثقافي السوري، قوامها؛ الأسماء التي غادرت بعد قيام الثورة
يزدهي المثقف الأسدي النمطي بكونه ما زال على الأرض السورية، بينما بات الآخرون الذين “وقفوا على الضفة الأخرى” كما يسميهم هو وغيره، مبعثرين في مشارق الأرض ومغاربها!
قدرته على تحمل قمع النظام، وإغماضه عينيه عن رؤية المذبحة المستمرة منذ عقد بحق السوريين، وهذه صفات تنقص من إنسانية الإنسان عموماً، يحولهما بالكلام المبتذل عن المؤامرة والتصدي لها، ومواجهة العملاء، إلى ميزات، تتكفل بوضعه وترسيخه ضمن حظيرة المرضي عنهم، فيضمن بهذا وذاك قليلاً من الجعالات، وكثيراً من الادعاء بتملك صفات الوطنية، التي يوزعها بمقادير، فيصبح الموالون كاملين، بينما يعاني أولئك المشكوك بهم من نقصان فادح في صفاتهم، وانتمائهم، حتى أمسوا ممن تجوز عليهم وفيهم سياسة إعادة التأهيل في المعتقلات والسجون!
يقسّم أحد دراميي النظام المعارضين، وفق معاييره إلى ثلاث فئات رئيسية؛ “فئة أكابر التكنوقراط، وهؤلاء باعوا مهاراتهم ومواقفهم لجهات خارجية مخابراتية ذات واجهات ثقافية، وقبضوا الثمن، وما زالوا يبيعون ويقبضون.
فئة المثقفين الناقمين على الأوضاع، وهؤلاء ربطوا مصيرهم بالفئة الأولى، وهم الآن يعانون، لأن الأفق بات واضحاً بالنسبة لهم، ولم تعد خدماتهم مطلوبة كما في السابق.
الفئة الثالثة تشمل المخلصين المخدوعين من بسطاء المثقفين الذين استُخدموا كثيراً، وقبضوا قليلاً، وهم حالياً بين نارين، إذ يجدون أنفسهم في منتصف النفق، العودة بالنسبة لهم غير مغرية ولا مجدية والاستمرار هو ضرب من الانتحار”.
وبغض النظر عن أن منح الشخص لنفسه القدرة على تقييم الآخرين، بهذه الصفاقة، هو نوع من التفكير الذي تملكته أدوات السلطة ذاتها، فإن الاسترسال في الحديث عن الفئات الثلاث تبعاً للخيارات التي مضوا فيها، ودون بحث الأسباب التي أدت إلى ذلك، لا يشبه في واقع الأمر سوى أن يدفن المثقف رأسه في الرمل، كالنعامة، منعزلاً عما حوله، ومفترضاً أن عالمه القاتم المحشو بالغبار، هو حقاً العالم الحقيقي، الذي يمنحه كل صفات الحكمة، وملكات التفكير السوي.
وهو في حمأة التقاطه للأفكار التي تمنحه الحماسة، يتجاهل أن شريحة التكنوقراط، والتي يسخر منها باستخدام تعبير “الأكابر”، لم يحدث أنها قامت بمغادرة البلد والوقوف في صف معارضة النظام، بسبب الثورة، بل إن هذا بدأ فعلياً منذ زمن طويل، وتحديداً منذ أن تولى البعثيون السلطة، واتبعوا سياسة خنق الرساميل الوطنية وتطفيش الكوادر التقنية، التي لم تجد في سياساتهم أي أفق لتطوير البلد، فقررت أن تغادر لعلها تجد مستقبلها في أمكنة أخرى، وهذا ما جرى في الخمسين سنة الماضية والتي حكمت فيها عائلة الأسد سوريا.
وهنا لابأس من التذكير بأن هجرة العقول التي يسخر منها كانت تتناسب طرداً مع السياسات الفاشلة لحكومات النظام، وتحول البلد شيئاً فشيئاً إلى مزرعة للعائلة، يجب على الجميع أن يكونوا عبيداً فيها.
وأيضاً، ينسى أو يتناسى الكاتب الذي دأب قبل الثورة على الكتابة عن فساد أهل السلطة، ثم تحول إلى واحدٍ من المتحمسين لها، أن يحدثنا عن أسباب النقمة التي تجعل من المثقفين ينحازون إلى المؤامرات على النظام الذي يحكم بلدهم!
وأظن أن إسباغ الصفات السيئة على المجموعة البشرية، بهذا الشكل لا يخفف منه التواري وراء التوصيفات البريئة، فهو يفترض أن الجميع قد باعوا أنفسهم مقابل “قبضة من نحاس”، دون أن يعرف أحد لماذا فعلوا هذا؟ فهل ولدوا خونة؟ أم أنهم كانوا خونة مستترين، وحينما جاءت الفرصة، كشفوا عن أنفسهم، وانساقوا وراء المصالح، وها هم الآن يجنون ثمرة عملهم، خيبة، وخسارة، وفقدان أمل!!
ويعود إلى تكرار الأمر ذاته في الحديث عن الفئة الثالثة التي يجد أفرادها أنفسهم في منتصف النفق!
هنا، يشعر القارئ بأن هذا المثقف السلطوي، يبني خطابه وفق منحيين؛ أولهما تجريم الآخرين بالخيانة، دون توضيح الأسباب التي أدت إلى تحولهم لخونة، وهو يصمت عن الأفعال التي يقوم بها هؤلاء وتستوجب اتهامهم بذلك، فلا يجرؤ أن يقول إن هؤلاء قد عارضوا نظام الأسد، وإن كل ما فعلوه لم يكن أكثر من مشاركتهم في سياق فعل مجتمعي عام هو الثورة، وهي أفعال لا تعد جرائم، سوى في العرف الأسدي!
وفي المنحى الثاني، ومن خلال التدقيق في ملفوظ الكلام الجغرافي، يذهب هذا “التنويري” السابق إلى جعل الذين يتحدث عنهم الآن في نفق، وهو يفترض بالتالي أن موقعه هو تحت الضوء، وإذا ما جمعنا ما تقدم به في البداية وما تأخر من تخرصاته، ستصبح سوريا الخاصة به هي “تحت الشمس”، بينما يترامى الآخرون في شتاتهم وتحت الأرض.
أليس هذا ما دأب الأسد على التفوه به حينما يتحدث عن المعارضين لحكمه؟ مضافاً إليه ما لا يمكن طمسه من مشاعر الغيرة والحسد والتمني لو أن أحداً من هؤلاء لم يتمكن من الفرار، واختفوا في مجاهيل الموت الوطني!
(سوريا)