علي سفر: الفيلق الخامس الثقافي في مواجهة قانون قيصر

0

يفرض قانون قيصر، بعدما أمسى مبرماً، أسئلة مهمة على النخبة الثقافية السورية، وكذلك على مثيلتها العربية، فالحيز الاقتصادي ليس كل شيء في مثل هذه الحالات. نعم، هناك عقوبات اقتصادية ستشمل بعض مؤسسات وشخصيات النظام، وكذلك أخرى مرتبطة به، دعمته ويسّرت أموره. لكن ماذا عن أولئك الذين دعموه في سرديته؟ وعلى الأخص أولئك الذين تحولوا أبوقاً له، تاركين خلفهم أدوارهم المفترضة كمثقفين من مثل مناصرة المضطَهدين كواجب إنساني وأخلاقي!؟

لا يلحظ قانون قيصر هذه المسائل، فدوره لا يتصل بها، ولا يجب أن يتصل أصلاً، بسبب من محدودية مجاله. حيث أن المسألة التي بُني عليها، بوصفه قانوناً يحاسب على جريمة تستند على أدلة هي صور العسكري المنشق قيصر، كان يجب على جميع المثقفين من شعراء وروائيين وقصاصين وفنانين أن يعلنوا رفضهم لها بوصفها جريمة ضد الإنسانية. لكن جزءاً كبيراً من هؤلاء صمت، ثم ما لبث أن أنكر وقوع الجريمة، ثم أعجبهم الدور، فمضوا في تكرار أوليات سردية النظام عن الإرهابيين، ثم بنوا عليها ما كرروه طيلة عقد كامل من مثالب الثورة السورية! المفارقة في تحولات هؤلاء، بالتوازي مع حيثيات قانون قيصر، أن التفاصيل تؤكد وقوع جرائم القتل تحت التعذيب، لعشرات الآلاف من المعتقلين التي يؤكدها “قيصر”، بين العامين 2011 و2013، أي في المرحلة التي لم تكن فيها التنظيمات الجهادية قد استولت على المشهد، وصارت بؤره الدالة. 

ففي ذلك الوقت لم تكن جبهة النصرة مسيطرة على مناطق في سوريا، ولم يكن داعش قد ظهر بشكله المعروف لاحقاً! ما يؤكد أن انحياز هذه الشريحة من المثقفين للنظام وروايته للأحداث، غير مرتبطة بالسياق الحدثي وبراهينه، قدر ارتباطها بالأسباب الكامنة وراء الموقف السياسي، وضمن هذه التفاصيل يمكن أن نجد الموقف الطائفي، وكذلك الموقف السياسي المتواطئ، وبالتأكيد الموقف المصلحي. إذ شكلت الخلخلة التي سببتها انشقاقات الكتلة الثقافية المؤيدة للثورة، عن مؤسسات النظام، فرصة لصعود كثيرين إلى سدة المناصب والواجهات، حيث يقبضُ المثقفُ ثمن موقفه منصباً، وربما بعض الاهتمام، وبما يرضي نواقصه النفسية!

قانون قيصر عاجز فعلياً عن محاسبة أي شخص على موقفه الأخلاقي، لكنه يفتح المجال للسؤال عما يمكن فعله حيال تعاطي المثقفين مع الجرائم ضد الإنسانية! وإذا كان الكثيرون يحيلون هذه المواقف وأشكال التعاطي، إلى محكمة التاريخ الافتراضية، المعلقة في فضاءات الخيال الإبداعي، حيث سيحكم الناس أنفسهم على المحالين إليها، أحكامهم الافتراضية أيضاً، فإن حجم الجريمة وطبيعتها واستمراريتها إلى اللحظة الراهنة (لا أحد يعلم عدد من قتلهم الأسد في سجونه) يجعلها أكبر من مجرد الإحالة إلى محكمة أخلاقية يمكن للزمن أن يطويها، أو للكتب أن ترويها، وبما يكفي المؤمنين شر القتال!

جريمة قتل المعتقلين تحت التعذيب، ونحن نشهد فصولها الدامية مع معرفة الأهالي بمصير أبنائهم، ومع معرفة الأوساط الفنية والثقافية بمصير المبدعين الذين غابت أخبارهم منذ أن اعتقلتهم أجهزة النظام، تتضخم في عقول ونفوس السوريين وغيرهم، حتى لتكاد تسيطر على العقل اليومي لمن يتابعها، مع السؤال عما حل ويحل بالباقين من الغائبين! وضمن هذا السياق ستتحول المواقف من أولئك الذين ساندوا النظام ودعموه، من عتبة الحياد والترك في ضفة المنبوذين، إلى التفكير الجدي بمحاسبتهم بوصفهم شركاء للنظام في أفعاله!

إنهم فصيله العسكري في عالم الثقافة. لقد لعبوا أدوارهم بانضباط كامل، من ترهيب المثقفين الذين خالفوهم في الرأي، إلى قيام بعضهم بارتكاب أفعال يندى لها الجبين، كالتحول إلى مخبرين وكتبة تقارير بزملائهم، وصولاً إلى الدور الأساسي وهو إنكار أفعال النظام، وتثبيت سرديته، مروراً بأدوار ثانوية صغيرة كشتم الآخرين وتخوينهم في شبكات التواصل الاجتماعي، وكذلك الترحيب بالإيرانيين والروس، إلخ.

وضمن سلسلة الأدوار السابقة، يتفرد هؤلاء حالياً، ومع تطبيق القانون، بدور جديد يقوم على التعريض به وإشاعة استهدافه للشعب السوري، وإحالة كل مصائب السوريين الراهنة إليه وتعليقها على شماعته! وفي أغلب ما يكتبه هؤلاء، لن يعثر المتابع والقارئ على أي إشارة إلى وجود جريمة أدت إلى ظهوره، بل إن بعضهم ينكر الصور، ويعتبرها مزورة وملفقة، كما أن بعضهم الآخر يختصرها بعبارة “الظروف” التي أدت إليه!

لا يستطيع أحد الآن أن يحاسب هؤلاء على ما فعلوه، طالما أن النظام الذي يحتويهم مازال في مكانه. كما أن مسألة العدالة للضحايا في الحدث السوري، والتي قيل في تضاعيفها القانونية الكثير، متروكة فعلياً إلى مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد، وبالتالي لن يستطيع أحد محاسبة هؤلاء على أفعالهم، كما أنه لا قانون وطنياً أو عالمياً يجرّم من ينكر وقوع جريمة قتل المعتقلين السوريين تحت التعذيب، ما يؤدي في المحصلة إلى استمرارهم في ما يفعلون، بلا رادع يردعهم سوى أخلاقهم، في حال تحركت ضمائرهم يوماً ما!

لكن ماذا عن محاولات ترتيب أنشطة ثقافية وأعمال فنية مشتركة بين المثقفين والفنانين المعارضين وبين أولئك المؤيدين؟ 

كيف يستوي لدى من يشاركون بهذا، وقد فعلوا ذلك مرات عديدة عبر أعمال فنية درامية وأخرى سينمائية، إغماضهم لعيونهم ولعقولهم عن حقيقة أن مثل هذا التوليف مع آخرين لا يرون المذبحة وجرائم الأسديين بحق شعبهم وزملائهم، يشبه في واقع الحال أن يشترك فصيل ثائر حر مسلح مع مفرزة أمنية أسدية، في حراسة سجن يتم فيه تعذيب المعتقلين!

لقد حاول الروس منذ احتلالهم لسوريا أن يقترحوا على القوى العسكرية المعارضة توليفة ميدانية سُميت بالفيلق الخامس، تتولى العمل في مناطق المصالحات، وأيضاً الأعمال العسكرية ضد داعش والفصائل الجهادية الأخرى. وفي جهة الثقافة ثمة من يقومون بهذا الدور، فيقترحون أعمالاً مشتركة مبنية على رؤية للواقع السوري معقمة من الجرائم الحاصلة فيه، وفيها السوريون أحباب متراضون ليس لديهم معتقلون مغيبون، ولا آخرون مقتولون! والنازحون والمهجرون واللاجئون صاروا هكذا من دون سبب ومسبب، وأيضاً لا وجود لصور قيصر ولا من يحزنون! 

أعمال لا تشير بأصبعٍ للقاتل، ويصبح فيها اللباس العسكري معمماً على الجميع، والرصاص طائشٌ، والضحايا مقتولون لأنهم سوريون!

هذه مقولات الفيلق الخامس الثقافي، تُرضي الجميع، كما تتوهم أنها تدين الجميع! وبالتأكيد لن يناسبها وجود حيز واضح للفاعل والفعل والمفعول، كما يقدمها قانون قيصر! ولهذا ستجد أصحابها يشنون حملاتهم الآن عليه، وهم يرددون المقولات ذاتها؛ فالعقوبات التي تستهدف الأسد وزمرته تستهدف بالنسبة لهم الشعب السوري بلا تمييز بين مجرم أو بريء!

ومع السكوت عن الأسد وعن أفعال نظامه التي خربت كل شيء في البلاد، من الاقتصاد حتى الحياة الاجتماعية، ومع الانتقائية في الطروحات التوفيقية من دون محاسبته، ومع الاستزلام المزمن، يصدمك هؤلاء دائماً حينما يباغتونك بالسؤال: ألسنا جميعاً في سوريا سوريين؟!

*المصدر: المدن

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here