تبدو نهلة الناشطة على فيس بوك سعيدة بحرائق المنطقة الساحلية في سوريا، فتكتب باسمها المستعار منشوراً تستنكر فيه على المتعاطفين مع ضحايا الحرائق موقفهم، وتختم بالقول مشيرة إلى مؤيدي الأسد: “إن شاء الله شذر مذر لا يبقي أحد منهم ولا يذر”!
كلمات نهلة تستدعي نقاشاً واسعاً في التعليقات، حيث تتفجر عبارات التأييد وإشارات الغضب المساندة لدى عدد كبير ممن أيدوها، أي أولئك من تمت تسميتهم خلال الأيام الماضية بـ”الشامتين”!
بينما يذهب آخرون إلى الخندق السلوكي المقابل، فيستنكرون هذا التصرف غير السوي، الذي لا يعبر عن أخلاق الثائرين، وعن شعارهم الأثير القائل بأن الشعب السوري واحد!
ثم يعلنون أن ترسيخ فعل الشماتة بالضحايا، لا يخدم أحداً سوى النظام، الذي أراد ومنذ بداية الثورة ترسيخ التفرقة بين السوريين، وإلباس الثورة مظهر الطائفية، والجهادية التكفيرية!
تعود نهلة إلى رشدها بعد أن أربكها الصراع الذي أحدثه منشورها، فتقوم بحذفه، ثم تكتب منشوراً آخر، تروي فيه حكاية عائلتها، التي دمرت قذائف جيش الأسد مسكنها، فتشرد أفرادها، وغاب أثر بعضهم، بين المعتقلات، بينما استطاع الناجون أن يحصلوا على إقامات في عدد من البلدان الأوروبية!
لقد مرت وقائع مأساة نهلة في زحمة موت تكرر طيلة عقد كامل، عاش السوريون أيامه وأسابيعه وشهوره كما سنواته، وكأنهم في فلم رعب طويل، تمت صناعته خصيصاً لهم، فتضمن وتماهى مع تفاصيلهم كلها، حتى لم يعودوا يقدرون على الانسلاخ منه!
إنهم أبطال هذه التراجيديا، ومصائرهم تتشابه في مؤداها، ولكنها تختلف في جزئيات التفاصيل.
وهكذا تبدو قصة نهلة وكأنها نسخة مخففة من حكايات أخرى أكثر قسوة، ولكن تفاصيلها حقيقية، ليست متخيلة، وتدفع تفاصيلها بمشاعر الغضب للارتفاع نحو الأعلى، وهذا ما يجعلها تبحث عن جواب لسؤال تطرحه على كثيرين استنكروا أن يقوم سوريون متضررون أو لنقل ضحايا للنظام، بالشماتة بضحايا الحرائق الأخيرة، الذين كانت مناطقهم خزاناً بشرياً للمقاتلين في صفه؛ ألا يستحقون أن يعيشوا وكعقاب -سماوي أو دنيوي- لحظات قهر وفجيعة تشبه ما عشناه طيلة الفترة الماضية على يد النظام الذي يؤيدونه، وقاتلوا معه؟!
يكتنز استفسار نهلة بحثاً طبيعياً عن العدالة، وهي بالتأكيد لم ولن تكون كارهة للآخرين بالفطرة، مثلها مثل غالبية السوريين الذين تخندقوا في مواجهة بعضهم، بفعل المذبحة التي ارتكبها نظام الاستبداد بحقهم، والتي بنى جزءاً مهماً من أسباب وقوعها على سردية طائفية مضللة، لتهييج العصبيات الكامنة، وخلط الأوراق في المجتمع، تضع السنة في مواجهة العلويين! فصار جزء منهم ضحية، وصار جزء آخر جلاداً!
ويحتاج الجزآن إلى قراءة وتحليل للدوافع، التي تجعلهما يقومان بالممارسات ذاتها تجاه بعضيهما، كلما وقع أحدهم في مأساة أو كارثة!
إذا كانت الشماتة وبحسب تعبير شوبنهاور فعلاً شيطانياً، فإن منشأ هذا التعبير “العدائي” يحتاج إلى التدقيق، فلا وجود لشياطين تستطيع أن تذهب بجموع عريضة من المواطنين إلى هذه الضفة، سوى شياطين النظام، ومن يشبهه، ويقلد أفعاله في الضفة المقابلة.
وطالما بقي ملهمو الوحشية مُطلَقي السراح، ويعيثون في كل البقاع السورية فساداً، فإن الشعور بالشماتة سيبقى مجرد تفصيل يثير الغضب لجهة الأخلاق الواجبة في الأزمنة القاسية للشعوب!
بينما تصبح فكرة انعدام العدالة، وعدم مساءلة المجرمين على أفعالهم، وغياب المحاسبة، خطوطاً إنتاجية نشطة في مصانع الكراهية الرائجة بين أفراد الشعب الواحد!
لا تتعاطف الشخصية الافتراضية لقصتنا المذكورة أعلاه مع العدو، فهي تعتبر أن كل من قاتل مع نظام الأسد، من أجل استمراره في الحكم هو عدو! وضمن هذا التوصيف، ستجد لديها قائمة طويلة لغير المتعاطف معهم في الكوارث التي يعيشونها، فزلازل إيران وانفجارات مدنها تسعد نهلة، كما أن سعادتها تتسع مع أي مصيبة تحدث في روسيا. ويمتد الأثر المدهش لإحساسها بالكارما (حدوث نتيجة منطقية لأي فعل يقوم به الإنسان، ومنها العقاب عن أفعال سيئة) إلى موقفها تجاه مصائب فئات باكستانية وأفغانية، وأخرى فلسطينية، وأيضاً لبنانية!
ضمن هذا السياق، لا يصبح فعل الشماتة كنقيض للتعاطف مستغرباً لدى فئة كبيرة من الذين يشبهون نهلة!
كما أن الإحساس باتساع الهوة بين السوريين، يتفاقم مع تعاظم شعور أصحاب المظلومية بأن الآخرين لم يتعاطفوا معهم في مصيبة كبرى كإجرام النظام في تعاقبه الراسخ؛ القتل، السجن، الحصار، التدمير، ثم التهجير! لا بل إن جزءاً من أولئك قد ساهم في صناعة مأساتهم!
لكن، وقبل أن نعزز حق الضحايا بأن يعبروا عن مشاعرهم كما يريدون، حتى وإن زلزلوا معتقداتنا الراسخة بفكرة الشعب الواحد المتضامن، يجدر بنا التوقف عند نقطة مهمة، يحاول النظام، وتيار من المتطرفين المعادين له أن يرسخوها بين الجمهور، لتكون قاعدة لا يمكن مخالفتها، قوامها محاولتهم المستميتة لصناعة كتل من المتصارعين، إسمنتية صماء، تبدو للناظر إليها وكأنها مخلوقة هكذا!
ووفق منهج العمل هذا، يصبح المشهد وبشكل غير صحيح، مبنياً على التعميم المغرض، بأن جميع السنة تكفيريون، في مواجهة العلويين، وبأن كل أفراد هذه الطائفة يقفون وراء الأسد، يشاركونه أفعاله وجرائمه!
الشامتون، هم ضحايا النظام وجرائمه، قلنا هذا منذ البداية، ولكنهم يصبحون ضحاياه للمرة الثانية، عندما ينساقون لآلية عمله في صناعة الكراهية!
ولكن هل يتكفل نقض العموميات التي رسّخها النظام والتيارات المتطرفة في الجهة المقابلة، بإنهاء الرغبة بالشماتة بالآخرين، الذين يدرك أيُّ متعمق في تحليل الواقع أنهم ضحايا آخرون!؟
في واقع الأمر، يمكن للتيار العام المعارض إدانة الهوّة الأخلاقية التي وقع فيها الشامتون، ولكنْ عليه أيضاً ألا يمارس الإنكار والادعاء بأنهم قلة غير مؤثرة!
وفي الوقت نفسه يجب ألا يسعى البعض إلى عزل هؤلاء وكأنهم فئة من المرضى النفسيين، بل يجب أن يتكامل فعل الاعتراف بوجود هذا التيار، مع السعي إلى دمج المظلوميات الخاصة بسياقها العام، فلا يصبح شعور الضحايا بما وقع عليهم إحساساً فئوياً، بل هو جزء مما يعيشه أفراد المجتمع كافة، كل بحسب ظرفه وواقعه وانتمائه!
وكل ما سبق لا يمكن أن يحصل دون إعادة تظهير الأسباب المؤدية للحادثة الأكبر، إذ كيف يمكن لبلد ومجتمع أن يكونا أسوياء نفسياً حين يحكمها قاتلٌ، ويتحالف معه عددٌ غير قليل من القتلة، دون محاسبة، ويفلتون دائماً من العقاب؟!
*تلفزيون سوريا