لا تبدو قضية رفع حكومة النظام الدعم عن جزء غير قليل من فئات الشعب السوري، مسألةً عَرَضية، يمكن المرور عليها بعجالة، وسط حالة الخراب العامة.
فالمستهدفون بالحرمان، وبعد أن بات الفقر والعوز حالة عامة، سيتضررون حكماً مما يُخطط لهم، وسيفقدون مواد تموينية، تعينهم على التقاط بعض الأنفاس، في سياق جريهم اليومي، من أجل الاستمرار في الحياة!
هل قلتُ حياة؟! ربما نلجأ لاستخدام هذه الكلمة على سبيل المجاز، بعد أن صارت ملامح الوجوه من يكابدون في المناطق التي يحكمها الأسد، لا تشي بأن أصحابها على ما يرام مطلقاً!
القوائم المنشورة بحسب المؤسسات الدولية المعنية بتحديد مستويات الحياة الجيدة حول العالم، وضعت سوريا ومنذ سنوات في آخر قوائمها، ولم تعدل في موقعها، لأن الحقائق لا تأتمر بما يريده الأسد وحلفاؤه، وهي مازالت تؤكد أن الوضع كارثي، وما زال في انحدار.
نقاش أسباب ما يجري، لدى فئات من الإعلاميين والأكاديميين الذين يدورون في فلك مؤسسات النظام، وخاصة في شأن تداعي مستوى المعيشة إلى ما دون القاع، يرمي بكل الأحمال على الحكومة، فتُجرد الحملات لدى هؤلاء ضد وزرائها، ويتم تناولهم بالاسم.
وفي مثل قصة كهذه، أي انتشار التسريبات عن الفئات المستهدفة برفع الدعم، جرى الهجوم ضد وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك عمرو سالم، على أنه مسؤول عما يجري. ورغم أنه قد صرح أن الموضوع لم يُقر بعد، إلا أنه تحول إلى دريئة للتصويب، يمارس البعض حظه في تعلم الرماية، من خلال إطلاق النار صوبها!
إمكانيات هذا المستوزر العلمية لا تخوله لأن يكون في موقع كهذا، فهو مختص بالمعلوماتية، وقد سبق له أن تولى حقيبة وزارة الاتصالات، وخرج منها بفضائح!
لكن الرجل يتطوع بطيب خاطر لأن يكون مبصقة للجمهور، وما الذي سيمنع بشار الأسد من استغلال رجل كهذا، في وضع سيئ غير مسبوق، ليحمل عنه كتفاً، في ظل الفشل العام للنظام؟!
الطريف في قصة تعاطي “نخب” النظام مع قضية تخص الجمهور الذي يدعون أنهم يتحدثون باسمه، أن هؤلاء يتعاطون مع الحكومة وكأنها جسد إسمنتي، هبط على مبنى مجلس الوزراء من المريخ، فتراهم يتجاسرون عليها، معتبرين أنهم يمارسون الديمقراطية، بالمقاس المفصل، بحيث ينتهي عند حدود هذا المبنى!
هنا، يمارس هؤلاء الذكاء والفطنة، فينظرون إلى الدولة كأجزاء غير مترابطة، فتنتفي علاقة رأس النظام -بحسب قواعد العمل الإعلامي الأسدي-بحكومة حسين عرنوس! ويطالبون بدور فاعل للقضاء، ضد فساد الإدارات الحكومية.
الدولة التي يحدثنا عنها هؤلاء فيما يكتبونه وينشرونه، هي في واقع الأمر “دولة متربعة فوق مواطنيها” بحسب تعبير الكاتب والمفكر الفرنسي آلان غريش، وهي دون شك، لم تعد ترى المواطن سوى عبد، يجب امتصاص دمه دائماً، وفي حال تمرد يجب قتله!
وتزيد حدة الكوميديا السوداء حين ترى بعضاً من جمهور المؤيدين يستغيث ببشار الأسد ضد الحكومة، ويتذكر الجميع أننا قرأنا مناشدات مكتوبة موجهة لحافظ الأسد، ليعود إلى الحياة، كي ينقذ مؤيديه المخذولين من حكومات جلبها ابنه!
طبعاً، وبشكل تلقائي، يدرك مدبرو اللعبة المتكررة هذه، أن هوجة محدودة ضد بالون الاختبار الذي تم تسريبه بخصوص رفع الدعم، لا تعني شيئاً من ناحية التأثير، ولهذا سيمضي القرار نحو عتبات التنفيذ، ليكون مقدمة أولى، لخطوات أخرى تلغي الدعم كلياً، عن جميع فئات المجتمع!
لن ينزل أحد إلى الشارع للاحتجاج، فمثل هذه الخطوة غير منصوص عليها في دليل العمل في فضاء النظام الأسدي، كما أن فكرة التظاهر بذاتها تثير الريبة ليس لدى الأجهزة الأمنية فحسب، بل أيضاً لدى أحزاب تعمل تحت “سقف الوطن”، خاصة إذا حاول البعض رفع سقف المطالبات في شعاراتها!!
وطالما أن الهدوء يسود جبهات الفقراء، فإن انخساف إمكانيات المواطنين المادية سيستمر، وصولاً إلى حدود لا يعلم أحد أين ستصل، لكن ملامح الكارثة غير قابلة للإصلاح ظهرت ولم تعد تخفى.
ففي الداخل، تنتشر ظاهرة المشردين الذين لا يجدون سقفاً ينامون تحته سوى شوارع القهر في دمشق!
وفي الخارج، أي في أمكنة حاول بعض السوريين أن يعبروا منها إلى واقع يليق بالإنسان، وإلى حيث يعيش أولادهم مستقبلاً أفضل، لا يجد المرء سوى الخيام المنصوبة قرب الحدود البيلاروسية مع بولندا، في مشاهد تُذهل الحجر لشدة بؤسها!
أمام وضع كهذا، ورغم أهمية الحصول على دعم (المواد الرئيسية)، لا يمكن لأحد يمتلك قليلاً من نوابض التفكير أن تنطلي عليه ألاعيب النظام وجوقاته، والتي تهدف إلى تحويل القضايا الرئيسية إلى هامشية، والعكس. وبدلاً من أن يكون البحث عن أفق لعملية سياسية تنهي الأزمة المستمرة طيلة عقد كامل، أمسى هم شرائح المواطنين، ولاسيما البقية الباقية من الطبقة الوسطى، هو المحافظة على حقها في الدعم، وألا تؤدي القرارات الخبيثة إلى فصمه عن المجتمع، بحجة قدرته على شراء قليل من الأغراض، في حال توفرت!
*تلفزيون سوريا