علي سفر: الجولان باقٍ.. في الثلاجة الأسدية

0

بشكل مختلف عن الزيارة السنوية في ذكرى عيد الجلاء برفقة الآلاف من المواطنين لقرى الجولان التي انسحب الاحتلال الإسرائيلي منها بموجب اتفاقية “فصل القوات” بتاريخ 31 أيار 1974، وهي الفرصة شبه الوحيدة التي كانت تتاح للسوريين سنوياً، للتجوال في محافظة القنيطرة، من دون أن يحصلوا على إذن أمني، كان يجب الحصول عليه وإظهاره عند أول حاجز أمني في الطريق إلى المكان.

تمكنت في بداية عملي في التلفزيون السوري، من فعل هذا الأمر، بشكل أسبوعي، بعد أن تم تكليفي لأكون مخرجاً لرسالة القنيطرة، التي تتبع قسم المراكز التلفزيونية.

آنذاك لم أكن أملك الخبرة الكافية، لأقوم بما يفعله مخرجو البرامج المعروفة، لكن إدارة القناة الأولى ارتأت أن تحل مشكلة هذا البرنامج، الذي لا يريد أحد العمل فيه، بأن يتم تكليف أحد المستجدين بتنفيذه، وحين سُئل الشخص المعني عن جواز فعل ذلك، خاصة أن الخبرة المهنية تلعب دوراً في مثل هذه المهمة، أجاب: فليتدرب بهذا البرنامج!

الذهاب إلى القنيطرة، وإلى القرى المتناثرة في أراضي المحافظة، في الأيام الباردة، والتي غابت عنها التنمية لعشرات السنين، حيث لا يمكن توقع الحصول على مكافآت من مسؤولي المنطقة، وحيث كان يتطلب عصر الفعاليات والأحداث العادية طيلة شهر كامل، من أجل الحصول على أخبار ومواد تكفي لإنتاج نصف ساعة تلفزيونية، تعرض في الخامسة مساء أي في أسوأ أوقات العرض!

كل هذا ساهم في عدم رغبة كثيرين بالعمل في هذه الرسالة المصورة، غير المجزية مادياً، وتحولها إلى ما يشبه عقوبة، كان الجميع يتجنبها!

استغليت الفرصة، من أجل اكتساب بعض الخبرات العملية، لكنني رسّختُ وقتاً مهماً من أجل التعرف إلى المنطقة، برفقة مصورٍ ضجرٍ، وسائق صامتٍ، ومحررٍ كان مهتماً بالجعالات المادية، فذهب بالفريق بحثاً عنها، إلى كل المناطق المأهولة في المكان!

الأمر الثابت من تجربتي الشخصية هذه، بالإضافة إلى رسوخ أسماء القرى والمزارع في رأسي حتى اليوم، هو تأكدي وبشكل عملي من أن نظام الأسد الأب، كان قد وضع القضية الملتهبة في الثلاجة، منذ أن قام برفع العلم في الساحة التي سميت لاحقاً بـ”التحرير” في مدينة القنيطرة المدمرة، وأن كل ما عدا الاحتفال السنوي في ذكرى رفع العلم، الذي يحضره مسؤولو الحزب والدولة وضباط الشرطة والأمن، والسماح للجولانيين في الإطلال على أهاليهم وأقاربهم وأرضهم في يوم 14 شباط (ذكرى انتفاضة سكان الجولان ضد قرار الضم) من تلة الصراخ أمام قرية مجدل شمس المحتلة، ووضع زيارة المدينة المدمرة على أجندة زيارات الضيوف العرب والأجانب، من أجل الشحادة المادية إن أمكن، أو المعنوية على الأقل، لم يعن الجولان في عرف الدولة الأسدية شيئاً إلا العلك الإعلامي الممل والمتكرر، الذي لا يتضمن أي فحوى سوى كونه بروباغندا إعلامية، يتم طرحها بشكل رخيص في مزايدات حزب البعث وقيادته على السوريين، ما أدى في المحصلة إلى نزع القيمة السامية عنه في وجدان المحكومين بالحديد والنار، وبالقمع والإرهاب، فصار ذكره فعلياً مرادفاً لرياء السلطة، وكذبها على الجمهور!

لم يختلف الأمر كثيراً في عهد الأسد الابن، ورغم أنه قد حاول إقناع العالم بصورة عصرية لحكمه، إلا أنه لم يتخفف من الشعاراتية في شأن احتلال إسرائيل للجولان، وبقي إعلامه يطنب في “مبدئية” موقف والده في مفاوضات السلام مع إسرائيل، لكن من الناحية العملية، ظل السياق الإجرائي لتعاطي مؤسساته مع هذه القضية، راسخاً في تملكها، وجعلها شأناً خاصاً بالحزب والأجهزة الأمنية والجيش، ومنع أي مسعى شعبي، ينزلها من رفها السلطوي إلى الأرض التي يقف عليها الجمهور.

هنا، أتذكر واحدة من القصص المهمة، فعندما شرع منتدى “السيريانز” الإلكتروني، في وقت ما من عام 2002، بالنشر حول ما تسرب عن قيام إسرائيل بدفن نفايات نووية في إحدى مناطق الجولان المحتل، تلقت الصحافة ما نقل إلى أفراد المنتدى بشكل شخصي، وبدأت التقارير تنشر، هنا وهناك، من دون أن يجد الأمر أي صدى لدى الإعلام الرسمي. وإثر قيام الصحفية الراحلة سلوى الأسطواني بنشر القصة في جريدة الشرق الأوسط، تم استدعاؤها من الخارجية السورية، حيث قيل لها بلهجة لوامة ومهددة؛ لقد تسببت لنا أنت وهؤلاء بمشكلة!

كان الوضع المناسب لأي شأن جولاني هو تخزينه حتى تأتي اللحظة المناسبة لاستخدامه، وبالتالي فإن إثارة أي لغط حوله كان يعني أن الأمر يفلت من السيطرة، ما يشكل في المحصلة تهديداً لآليات التحكم المستقرة، وبالتالي كان يجب على الصحافة أن تصمت، وأن يخرس هؤلاء الناشطون الذين “يلعبون” في منتداهم الذي لم يستمر طويلاً، لأسباب شتى كان أبرزها عدم القدرة على تطوير نشاطهم، ورفعه درجة إضافية، في ظل تراجع ظهور المنتديات، وعودة القمع الشديد للحريات.

لاحقاً، وفي مبنى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، اعتقد ماجد حليمة، المدير العام الذي حل بدلاً من الدكتور فايز الصايغ في العام 2006، وظل في منصبه لمدة سنة وبضعة شهور، أن بإمكان بضعة أفلام ترويجية يتكرر بثها على الشاشة، وتنشر صور المناضلين الأسرى من أبناء المنطقة، أن تجبر الحكومة الإسرائيلية على إطلاق سراحهم!

ومع اختياره لعبارات تحريضية وتهويلية من مثل أن الأسرى “سيكونون قريباً بيننا رغماً عن الاحتلال”، كان متلقو هذه الحملة الإعلانية، غير المسبوقة أو المعتادة، في سياق علاقة النظام بهذه المسألة، يظنون بأن ثمة تغييراً في طريقة التعاطي مع المحتلين!

ومع تكاثر إشارات الاستفهام عما يجري، رن هاتف المدير العام، وتلقى اتصالاً من أحد مكاتب القصر الجمهوري، لا نعرف إن تضمن شكراً ومديحاً أو غضباً وتقريعاً، لكنه في المحصلة تضمن فعل أمر واضح غير قابل للنقاش هو: اصمتوا.

فسكتت الأفلام، وتوقفت فجأة صور الجولان وأسراه عن الظهور على الشاشة، وكأنها لم تكن، واختفت كنبضات إلكترونية في العدم، بينما تابع الجميع أعمالهم وأشغالهم كالمعتاد!

*تلفزيون سوريا