علي سفر: الجنرال المستشرق فيتالي نعومكين يتفقد سوريا

0

لو أن البروفيسور فيتالي نعومكينن رئيس معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم لروسيا الاتحادية، اختار وقتاً سابقاً ليقوم بزيارة دمشق، لكانت فرصة أن يستقبله بشار الأسد بسرعة، كبيرة جداً، وربما لن يكون اللقاء موجزاً، بل سيمتد لساعات!

لكن التوقيت مؤسف، فقد حصل زلزال في المناطق الممتدة بين سوريا وتركيا، الأمر الذي جعل أجندة رأس النظام “متروسة” باللقاءات مع ممثلي المنظمات الدولية، ومع مُنبرين من بعض العرب، للدفاع عنه، في وجه العقوبات الدولية المفروضة عليه.

لكن لا مشكلة لدى الزائر الروسي، فهو يستطيع الانتظار، إلى أن يسمح وقت الرئيس، وخلال ذلك، يمكن تزجية الوقت بلقاءات مع شخصيات رسمية ستظهرها الصور جالسةً بخفر أمامه، وكأنها تنهل من العالِم الجليل بعضاً من أفكاره وتوجيهاته!

حدث هذا مع وزير الخارجية فيصل المقداد، وأيضاً مع وزير الإعلام بطرس حلاق، وكذلك مع المستشارة بثينة شعبان، بينما جلس طلاب المعهد الدبلوماسي التابع للخارجية، بصمت واستمعوا.. وكذلك فعل قادة الفصائل الفلسطينية، وبقي لنعومكين فقط أن يلتقي من طبقة المسؤولين هذه، وزيرة الثقافة لبانة مشوح، وكذلك نائبة الرئيس للشؤون الثقافية نجاح العطار، ليكمل جولته المظفرة.

خلال هذه الأيام، سينال التكريم من السفير أنور عبد الهادي، مدير عام دائرة العلاقات العربية لمنظمة التحرير الفلسطينية، “لدوره المهم في خدمة القضية الفلسطينية”، وقبل ذلك سيُستضاف في واحد من البيوتات الروسية، حيث أجرى لقاءً حوارياً في المركز الثقافي الروسي مع عدد من المحللين والكتاب السياسيين “من تيارات متنوعة تعبّر عن الطيف الواسع للمجتمع السوري”، وهدف، بحسب وكالة سانا السورية الرسمية، “إلى الحصول على المعرفة الحقيقية من الباحثين والمفكرين عبر الأفكار والرؤية الناتجة من معرفة الواقع المتنوع للمجتمع السوري”، وعلى الهامش ستستضيفه الفضائية السورية، ليستقي الشعب السوري كله من معارفه!

بحسب ما سبق، يبدو لنا كمتابعين، أن المستشرق الروسي، الذي يُستضاف على الفضائيات العربية كمحلل سياسي، وتفسح له بعض المواقع والجرائد مساحة للكتابة عن سياسات بلده وانتصاراتها، قد استُضيف في دمشق وكأنه جنرال منتصر، يحمل على كتفيه نجوماً لا تحصى، وتحمل بذلته العسكرية أوسمة من شتى المعادن الملونة. كيف لا، وقد قضى في منصبه حتى اللحظة أكثر من دزينة سنوات، دأب فيها على ممارسة دور يتجاوز العلم والمعرفة، ويصل إلى التجند في فيالق بوتين، والعمل على تبرير سياساته ومغامراته العسكرية..

مع الفصائل الفلسطينية
بدأ المعهد الروسي، الذي بلغ من العمر قرنَين، مؤسسة علمية (تأسس العام 1818). وبحسب تعريف القائمين عليه له، فإن تاريخ الاستشراق الأكاديمي الروسي قد بدأ منذ ظهوره، لكنه خضع، ومنذ ثورة البلاشفة، للسلطة السوفياتية، التي غيّرت من طبيعته غير مرة، فدمجته مع “المتحف الآسيوي” في معهد الثقافة البوذيّة وقسم العلوم التركية، ونقلته في سنوات الحرب العالمية الثانية إلى مدينة طشقند. ونقلته منذ العام 1950 إلى موسكو، ليخضع فعلياً لسلطة الكرملين مباشرة، وليصبح جزءاً من ماكينة الدبلوماسية الروسية التي يختلط فيها السياسي بالأمني الاستخباراتي، والتي سيعبّر عنها المعهد نفسه، بتوصيفها ضمن أدواره، لجهة المشاركة في تنظيم منتديات دولية رفيعة المستوى في إطار التعاون الدولي، وكذلك “تنظيم الاتصالات واللقاءات العلمية داخل أسوار المعهد مع علماء عالميين وشخصيات أجنبية رفيعة المستوى ورؤساء دول”!

طبعاً، لن ينكر أحد الدور الكبير الذي قدمه مستشرقون روس لخدمة الثقافة والتراث العربيين، من خلال التعريف بهما ونقل بعض منتجاتهما إلى اللغة الروسية وبعض لغات الدول السوفياتية سابقاً. لكن استقلالية هذا العمل مفقودة، كما أن تجريده من الغايات السياسية يبدو صعباً، في ظل هذا الاشتباك الحاصل بحكم الخضوع للسلطة، واستمراء شخصيات بارزة مثل نعومكين وغيره، للعب الدور الخادم لها، يجعل من الصعب الحديث عن علمية المعهد ووضع نقطة في نهاية السطر.

هنا، لا بد، من أجل توضيح المسار الذي تمضي فيه الأمور، أن نستوضح الموقف اللافت الذي اتخذه تيار الاستشراق الروسي من التحولات التي لاحت في المنطقة العربية منذ نهاية العام 2010، ونقصد ثورات الربيع العربي. فقد مالت الكفة صوب السلبية، وإنكار حقوق الشعوب في التغيير، مع الإنشاء الذهني الساذج، الذي هدف إلى إظهار الطبيعة “المؤامراتية” للثورات. وفي هذا، كتب الباحث الأكاديمي الدكتور محمود الحمزة، بحثاً مهماً بعنوان “الاستشراق الروسي بين العلم والسياسة” شرّح فيه هذا الانحراف العقلي، فقال: “شكلت ثورات الربيع العربي حالة من الصدمة غير المتوقعة لأغلب المستعربين الروس. ومن الغريب أن قدراتهم العلمية لم تمكنهم من فهم كل ما يجري في البلدان العربية من تحولات عميقة بنيوية وفكرية وسياسية، وإنما اكتفوا بربط تلك الأحداث بالمخططات الإمبريالية العالمية وحلف الناتو. أي عوضاً عن البحث في الأسباب الاجتماعية والسياسية، ربطوا ثورات الربيع العربي بالعوامل الخارجية والجيوسياسية… كان يفترض بالمستعربين أن يدرسوا القاع العربي بعمق والتحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي جرت في المجتمعات العربية، وتحديداً في النصف الثاني من القرن الفائت. إلا أنهم فضلوا اللجوء إلى أسهل الطرق، وحمّلوا الغرب الإمبريالي مسؤولية كل ما يحدث. ويمكن القول إن مدرسة الاستعراب السياسية الروسية تعاني حاليًا أزمة عضوية أدت إلى إفلاسها وتقهقرها إلى مستوى التحليلات السطحية التقليدية البعيدة من التحليل العلمي الرصين، والاكتفاء بالقول: كل الذنب يتحمله الغرب”.

برز من بين المستشرقين الروس في العالم العربي، الباحث الرصين اغناطيوس كراتشكوفسكي، الذي عانى في سنوات ما بعد ثورة أكتوبر 1917، من اتهام السلطة الجديدة له بالتجسس لصالح فنلندا، ولم يُفرج عنه إلا بعد تدخل مجموعة من العلماء أصحاب الحظوة والعلاقة المتينة مع الحزب ورجالاته، فأسقطت عنه التهم، وتابع عمله العلمي في معهد الاستشراق، ومن ثمار عمله اشتهرت كتب كثيرة، منها ترجمته لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة الروسية.

قد تكون قصة الرجل أنموذجاً مخففاً عن هيمنة وطغيان السياسي على العلمي، في المنظومة السوفياتية الداخلية، والتي احتفظ الاتحاد الروسي في طوره البوتيني بمقوماتها! لكن فداحة القبح تتأتى من الاستثمار الكامل للسلطة، ليس لحيوات الأفراد وجهودهم فقط، بل حتى لتاريخهم وأسمائهم بعد رحيلهم. ففي العام 2010، أنشأ المعهد ميدالية باسم كراتشوفسكي، تُمنح للباحثين المحليين والأجانب، وكذلك للشخصيات الإجتماعية الأجنبية لجهودها في إقامة العلاقات بين الاتحاد الروسي ودول الشرق.

لهذا، سيبقى السؤال الحاضر، إلى حين انتهاء جولة الجنرال المستشرق فيتالي نعومكين السورية: هل سيقدم ميدالية كراتشوفسكي لبشار الأسد، تقديراً لجهوده في توسيع هيمنة بوتين وعدوانيته؟!

*المدن