علي سفر: إصدارات وزارة الثقافة السورية.. من التنوير إلى منبر للمحتلين

0

في وقت ما، كانت منشورات وزارة الثقافة السورية، من أفضل ما يتم إصداره على مستوى الوطن العربي من كُتُب.

نحن هنا لا نتذكر تاريخاً مغرقاً في قِدَمه، بل نتحدث عن الفترة ذاتها التي كانت فيها نجاح العطار وزيرة للثقافة، حينما حُشدت قدرات وإمكانات طاقم كبير من الكتّاب والمترجمين، ليقدموا مؤلفاتهم وترجماتهم، التي كانت تطبع وتنشر على نطاق واسع وبأسعار متهاودة.

وقد كتب كثيرون عن غنى هذه الفترة بالنتاج الثقافي، لكن جزءاً كبيراً منهم لم ينسَ الإشارة إلى هامشها، حيث كانت أجهزة حافظ الأسد الأمنية تُطبِق على المجتمع السوري، وتلغي وجود القوى السياسية المعارضة، وتروض الأحزاب لتضعها في أقفاصها، فتمنع النشاط السياسي، أو تلحقه بالنظام، وتضع المعارضين أمام الخيارات التقليدية في العرف الأسدي: إما الصمت أو الرحيل أو الموت أو السجن!

ضمن هذا الفضاء، يصبح العمل الثقافي حالة تعويضية، وبدلاً من أن يكون نشاطاً موازياً لفعل التغيير المجتمعي، فإنه يتكرس كسبيل شبه وحيد للتحايل على التعقيم السياسي، فيراوغ أصحابه كثيراً، لكنهم في النهاية سينكسرون أمام القدرة الأسدية على الاستشراء في كافة مفاصل الحياة.

ضمن فضاء النشر في الوزارة، طرح بعض المتنورين، وفي مقدمتهم المفكر الراحل أنطون مقدسي، تصورات مهمة عن آليات تفعيل الثقافة في خدمة المجتمع، والتأسيس لحريته الفكرية، وعبر سياق كهذا كان أصحاب التوجه الليبرالي ينشرون الكتب التي تعنيهم، والتي تتوافق مع المزاج العام في البلد، فترن في الآذان شعارات الاشتراكية، بينما ينام الاقتصاد في أحضان التجار، والشرائح الطفيلية والبيروقراطية الناشئة تنهل من ثدي الدولة ومؤسساتها.

كما أصدر بعثيون وشيوعيون مئات الكتب من الترجمات والمؤلفات التي تحاول إضفاء البهجة والمعنى على الخيارات والتوجهات المنكوبة بممارسات النظام المرائية. فهو، ورغم شعارات البعث الشهيرة (وحدة، حرية، اشتراكية) التي تعلو أبواب مؤسساته كلها، ليس قومياً وليس اشتراكياً، وطبعاً ليس شيوعياً، لكنه لا يمنع هؤلاء من الكتابة عن وضمن هذه التوجهات، شرط ألا تصبح هذه الكتب والمؤلفات ذات طابع تحليلي محلي، أي شرط ألا تمس زمنه، وأفعاله

وحكماً، كان من المستحيل على الإسلاميين ذوي التوجهات السياسية، أن يقتحموا قلعة الوزارة، فهم ممنوعون من النشاط أصلاً، وإن سمح لهم بالنشر والتأليف، فعبر دور النشر الإسلامية التي لم تقصر، ولم تتوقف عن نشر ما لا يتعارض مع سلطة النظام!

لم تتوقف عملية النشر في زمن الأسد الإبن، في وزارة الثقافة، لكنها مرت بمراحل متباينة، بحسب سياسة من يتم تكليفه بالوزارة، فكل وزير كان يطلب من القائمين على النشر التركيز على اهتماماته الشخصية، أو اختصاصه، وبخجل أو من دونه، كان هؤلاء يقومون بطباعة أعمالهم الشخصية! حتى أن الوزير رياض عصمت، أعاد طباعة مؤلفاته كلها، رغم أن بعضها كان قد طبع قبل مدة، ولم ينفد!

في الفترة الماضية، ورغم أن الفضاء العام في البلاد صار قاتماً، مع رحيل مئات الكتاب والمترجمين خارج البلاد، بفعل حرب النظام على السوريين المنتفضين ضده، بقيت الوزارة تطبع الكتب، لكن أي كتب؟ الكتب التي تحاول الدفاع عن رواية النظام في ما يجري، إضافة إلى تلك التي تغطي فعاليات الوزارة، وعشرات الكتيبات لمديرية ثقافة الطفل، ولا يخلو الفراغ العام من إصدار هذا المسؤول أو ذاك مؤلفاً من مؤلفاته، كما فعلت وتفعل دائماً نجاح العطار نائبة بشار الأسد للشؤون الثقافية! أو بعض صغار القوم مثل ناظم مهنا، رئيس تحرير مجلة “المعرفة”، الذي أصدر عدداً من مؤلفاته السابقة، في طبعات جديدة ضمن إصدارات الوزارة، ثم جاء بكتاب لملم فيه مقالاته المنشورة هنا وهناك وأسماه “بابل الجديدة”، ثم أعقبه بمجموعة شعرية رديئة حملت عنوان “الطرف الآخر للرمل”!

لكن الرائحة الإيرانية، بدأت تظهر في المكان، فصار القارئ الذي يحاول العثور على كتاب جيد في لوائح مطبوعاته، يكتشف مؤلفات لبعض الإيرانيين من رجالات الملالي، وهكذا ستمر معنا في العام 2019 مجموعة قصصية بعنوان “أسطورة السعادة”، لمحمد مير كياني، مدير قسم الأطفال واليافعين في القناة الثانية من مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية!

ولكي يكتمل المشهد المطابق للواقع السياسي والميداني في سوريا التي يحكمها الأسد، كان لا بد للوزارة من طباعة رواية روسية ذات طبيعة استخباراتية، ضد-إرهابية، تغزل تفاصيلها على إيقاع الحرب الروسية ضد “الإرهابيين” الشيشان والأفغان، حملت عنوان “الرائد فيتروف”، كتبها الروسي نيقولاي تشيرغينيتس، فصدرت بلغتها الأم العام 2016، وها هي تصدر باللغة العربية بحجم هائل (760 صفحة قطع كبير)، متاحة للقراءة إلكترونياً في موقع الهيئة العامة للكتاب، التي قدمت لهذه الرواية بالقول إنها: “رواية بوليسية تربط بين الفكر الإرهابي ومنظومته في العالم، تُسلط الضوء على عمل بعض المنظمات الإرهابية في الشيشان. إنها قصة مجموعة إرهابية كبيرة يقودها “حكيم” المرتبط بأسامة بن لادن، تحاول تنفيذ عمليات إرهابية مختلفة لتحقيق أغراض عديدة، منها تقليب المكون الإسلامي في روسيا الاتحادية وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، ضد الدولة عموماً، وروسيا تحديداً. وتركّز الرواية أيضاً على تصدي القوات الروسية الخاصة، وقوات مكافحة الإرهاب لهؤلاء الإرهابيين، ويؤدي الرائد فيتروف الدور الأكمل في ذلك”… فإذا كان التقديم الموجز هذا، وعلى صغره يكرر بين سطوره كلمتي الإرهاب والإرهابيين خمس مرات، فكم ستتكرر في صفحات الرواية العملاقة؟

مأساة الثقافة السورية الرسمية، التي صنعت بعض أمجاد المثقفين السوريين، تحولت وبفعل الواقع الراهن إلى ملهاة، يضحك المرء فيها على تحول كثيرين ممن كان أدبهم قبل الثورة يفيض بالدعوات للحرية، إلى مثقفي سلطة ومخابرات! ويقهقه حين يرى وزارة الثقافة تصدر كتباً يصنعها البعض للدفاع عن الأسد ونظامه، ويستغرق ساخراً في قيام الهيئة العامة للكتاب بإصدار مثل هذا الأدب الرديء، في تجلٍّ لتحول المنبر الثقافي الرسمي إلى لاعق لأقدام المحتلين الإيراني والروسي، وناشر لروايات انتصاراتهم المزعومة على شعوب صلوها النار والموت والدمار! فهل ثمة ما يؤسف عليه بعد هذا كله؟

*المدن