علي سفر: أساطير بعثية: جحافل “الهتيفة” و”السحيجة” و”الدبيكة”

0

بالإضافة إلى أعمال أخرى، شملت شهادته عن الثورة السورية، التي صدرت في كتاب عام 2018، ورواية حملت عنوان “أبو دياب يتكلم في الأفراح” عام 2019، وأخيراً كتابه “السيرة الرحبانية الفيروزية” في 2020.دأب الكاتب السوري خطيب بدلة، طيلة سنوات العقد الماضي، على تقديم مجموعات سردية، جمع فيها حكايات عن زمن الاستبداد، فصدر له “قصص وحكايات وطرائف من عصر الديكتاتورية في سورية” العام 2014، و”حكايات سورية لها علاقة بالاستبداد” العام 2015، و”السوريون منبطحاً” العام 2017، و”كوميديا الاستبداد” العام 2018.

وضمن هذا السياق يأتي مؤلفه الجديد “أساطير بعثية”، عن دار موزاييك في إسطنبول التركية، حيث جمع في صفحاته 19 قصة عن سوريين كانوا ضحايا لزمن الأسدين الأب والابن، أو جلادين، يساهمون في دفع الجميع نحو الحواف الحادة من كل شيء، إذ يصل الإنسان إلى الحدود القصوى من الجنون، ومن الخبل، مروراً بالهذيان، الممتلئ بالتفاصيل الكبرى وجزيئاتها، عن هذه الحقبة، التي تحول عموم السوريين فيها إلى شعب تحكمه فيها الأفرع الأمنية، وتتحكم بتفاصيل يومياته، وبالأطر الإدارية التي تسير حياته.

فيمرّ خطيب بدلة، كما فعل في المجموعات السابقة، على شؤون العامة من الناس، بالتوازي مع تحليله غير المعقد للبنى الذهنية لأولئك الذين هتفوا طيلة عشرات السنين “بالروح بالدم”، ففي ردهات وغرف العقل البعثي، صار عنوان الحياة ومدخل التطور هو الانضمام إلى جحافل “الهتيفة” و”السحيجة” و”الدبيكة”. وفي الحد الأدنى من خطوات اتّقاء شر كتّيبة التقارير المخابراتية، وسطوة العناصر الأمنية، كان على الآخرين أن يصمتوا، وأن يراقبوا، من دون أن يتورطوا بعمل يودي بهم إلى تهلكة أقبية التعذيب.

هنا، يحاول خطيب أن يدفع بهؤلاء الذي أغلقوا أفواههم لأن يحكوا عما جرى في حَواري المدن الهامشية، والقرى البعيدة، وعن آليات السيطرة، وتحول اليومي البسيط إلى جزء من فعالية التسلط، عندما يختلط سوء الإدارة بتجارة الجنس، وبالرشوة، وبهيمنة المركزي على الطرفي، فيتحول عنصر الأمن، إلى رمز، أو حامل لواجهات النظام، فتظهر تباعاً عبر حضور المخابرات في صفحات الكتاب، صور حافظ الأسد، وأبنائه، ورجال حكمه، من رؤساء وزاراته، وصولاً إلى أشهر الوزراء، ومسؤولي القيادة القطرية، والمدراء العامين، نزولاً حتى أبسط المهن الحكومية، ويصبح التكوين النفسي لعامل البلدية (على سبيل المثال لا الحصر) ضمن هذا المسار، جزءاً من العقل الجماعي المكون لهيمنة عقيدة الرقابة على السوريين، فيشعر أنه يتماهى مع عنصر الأمن، طالما أنه ينتمي إلى النظام، الذي حول البلد بأكمله إلى قلعة أمنية.

ارتبط عمل خطيب بدلة، منذ البدايات، بالسخرية، فسُمّي كاتباً ساخراً، وقد عمل كثيراً ضمن هذا النسق من التأليف، غير أن تبدلاً حصل في توجه كتابته منذ انضمامه إلى الثورة، وانغماسه في الأنشطة المحلية في محافظة إدلب، والخروج نهائياً إلى تركيا ومنها إلى ألمانيا، فقد صار تركيزه الكامل منصبّاً على التكنيك السردي، الذي ينقل من خلاله الحديث اليومي المعتاد، إلى عتبة التوثيق.

ويمكن ملاحظة هذا الأمر في رواية “أبو دياب يتكلم في الأفراح”، التي احتوت تفاصيل حكاية تجري أحداثها في مدينة إدلب، في السنة الأولى للثورة السورية، تعددت خطوطها إلا أنها لم تتشتت عن ثيمة أساسية، تتحدث عن امرأة تعيش علاقة عاطفية غريبة عن واقعها، بينما يتخبط أولادها في مصائرهم، فتحدث مفاجآت، ترسم ملامح ما جرى في البلاد لاحقاً، من أسلمة للثورة وتدمير لأحلام ثوارها، وتفشي الفساد، ودمار البلاد واحتلالها على يد الإيرانيين والروس. وفي ركن أساسي ضمن هذا البناء القاتم، كانت شخصية أبو دياب سر الرواية، أنموذجاً للمعلاق (كثير الغلبة) الطريف، الذي يأخذ القارئ إلى لحظات ضاحكة، وسط كل ما يجري، عبر كوميديا موقف تكتمل غرائبيتها مع كثافة المنطوق الشفوي، وما يحتويه من كلام عادي وهذر ومزاح وشتائم بذيئة، تصبح جزءاً من سياق واضح، ببنية مفهومة، يتمحور حول أسلوب وطريقة تعاطي الناس مع السلطة.

ورغم أن ثمة قنوات لمرور مثل هذا النوع من الخطاب، إن كان عبر الدراما أو المسرح أو السينما، إلا أنه لم يتحول إلى مادة حاضرة في الحالة الأدبية والفنية السورية، بينما يلاحظ قارئ خطيب امتلاء قصصه التي ينقلها هنا، بمثل هذه التفاصيل من دون الوقوع في فخ المجانية، أو السوقية، ويمكن اعتبار هذا الملمح واحداً من البؤر القوية في صنعة الرجل. وفي المقابل سيلاحظ القارئ الحساس للكوميديا والسخرية انخفاض منسوب “المضحك”، أمام تفاصيل استعادة الواقع المعاش من الذاكرة، وبما يحيل إلى الكوميديا السوداء، حيث يمكن السخرية من الزمن الأسدي، ووضع تفاصيله في وسط الخشبة، وتحت بقعة ضوء مركزة، مثل مهرج يحمل على كتفيه الرتب، وتملأ صدر بدلته العسكرية غير المكوية الأوسمة والنياشين، وفي هذا السبيل، يمكن فهم المعنى من تسمية الحكايات الوارد في الكتاب بالأساطير، فكلما تم دفع الهزيل إلى الواجهة، سيدرك الجمهور عمق التباين بين الواقع وبين الملفق المؤسطر!

غير أن معضلة القارئ الذي يبحث عن الطرافة، ستتكثف في غياب المصائر المكتملة، إذ سيفتقد “القفلات”، وستصبح النهايات عادية، فيمضي المقهورون في حال سبيلهم إن نجوا، ويهرب اللصوص بما سرقوه، ويبقى ضابط الأمن وعناصره يترصدون سجيناً يسخرون من معاناته وربما موته. وكأن أساطير خطيب تسأل القارئ، من أين؟ وكيف يمكن اختراع النهايات المضحكة وسط كل هذا الخراب؟!

*المدن