علي حسن الفواز: ما يكتبه الكائن عند خائنة المنفى

0

تكتسب مقاربة المنفى طابعا إشكاليا، بسبب ما تُثيره من أسئلة، وبما تحمله من دلالات رمزية، ومفارقات يتقوّض فيها الكائن والمكان، لأنها ستكون من أبرز العوامل الدافعة إلى قراءة ما هو ملتبس في علاقة تمثيل ذلك المكان، وفي مقاربة أنساقه، وحيواته، لكنها ستكون أكثر إثارة، من خلال تعاطيها مع قضايا تخص رهابات الهوية، والتاريخ، واللغة، والعلاقة مع الآخر، وهذا ما يجعل مفهوم المنفى لا معيار له، لأنه لا يكتفي بعوامل الطرد والهجرة والانعتاق عن المكان «الوطني» أو «العائلي» بل ينزاح إلى مقاربات يشتبك فيها النقدي مع الأنثروبولوجي، والهووي مع الآخروي، وبما يجعله عرضة لتحولات مفهومية، ولإزاحات تتماهى مع تقويض مركزية المعنى، وذاكرة الحمولات القديمة للوجود، مقابل اللجوء القسري إلى «حيل نسقية» لتوصيف العلاقة بين الأمكنة الطاردة والخائنة، والأمكنة البديلة، تلك التي تحضر بوصفها منافي سياسية، أو»إنسانية» أو «لجوئية» والتي تتبدى فواعلها من خلال وثائق دولية، تؤطر الحماية والإشباع، و»الهوية البديلة» التي تصطدم بنوستالجيا الكائن، الملتاث باستعارات الأمكنة القديمة، التي يستدعيها كنصوص تسوّغ استيهامات الاغتراب، وتسردن الوجود التمثيلي له بمواجهة فكرة الطرد من المكان، ومن المعنى.
قد يبدو ضبط المنفى صعبا، على مستوى توصيفه، أو على مستوى تداوله، فهو مفهوم للمكان العائم، الذي يساكن هاجس اللانتماء، والغربة، وحتى خيار التعويض النفسي أو السياسي والاجتماعي والأيديولوجي لا يشفع أن يجعله مكانا بديلا وصالحا للإقامة، فهو قرين بفكرة «الطوارئ» التي تمنحه طاقة سردية، عبر التخيّل، والعرض، والاستعادة، التي تتحول إلى لعبة في استفزاز المسكوت عنه في اللغة والهوية، ليجعل الأولى مخادعة، والثانية مُهدَدة.

الكتابة والاغتراب

اقسى ما يستنفره المنفى هو اللغة، إذ تحضر استعاراتها ومجازاتها عبر نصوصها، لتبدو وكأنها مرآة غامرة، أو هوية إشباعية، أو جسد له غواية التحوّل الإيروسي، فكلّ ما في المنفى يتهوّس، ويتغوّل، لتتسع معه الذات المرآوية، ولتجد في الاغتراب إطارا فلسفيا، ونزوعا للتطهير، والتشافي من رعب الأمكنة الدوستوبية، ورهاب العلاقة مع الغريب/ الآخر بمعناه النفسي والسياسي والمركزي والأيديولوجي، وربما بمعناه العميق الدال على العلاقة اللاوعية مع الآخر الكولونيالي، لاسيما وأن أغلب منافينا هي كولونيالية..
العلاقة مع الآخر تظل علاقة قلقة، لأنها تقوم على وهم الهيمنة، والاستضافة، وهي ثنائية ليست رحيمة دائما، بل كثيرا ما تتحول إلى علاقة مهدَدة، التي يتحول فيها الاغتراب إلى موقف ضاغط، يتبدى عبر نصوصٍ قاسية، وأحسب أن شاعرا مثل سركون بولص وجد في «النص القاسي» لعبته البلاغية، في مواجهة الطرد، والاقتلاع، وليبدو منفاه خبيئا خلف أقنعة ماكرة، لتمثيل القسوة والطرد، مثلما ظل الجسد بمعناه التاريخي والوجودي مهجوسا بالملاحقة، والبحث عن الإقامة، فلم يجد إلا اللغة لكي يخبئ بها نرجسيته المضطهدة ومخاوفه إزاء مواجهة المنفى، فهو يكتب منذ البدء عن هواجسه عن «مدينة أين» وهي شيفرة اللامكان، وهاجس الشاعر الذي يبحث، ويجوس، ويلاحق، أو يفلسف الاغتراب، بوصفه وجعا شخصيا، أو جزءا من متاهة الشاعر ذاته، أو من قناعه التمثيلي الذي يعيش معه قسوة النبذ، ولعنة الأمكنة الطاردة، مثلما يكتب في «عظمة أخرى لكلب القبيلة» بعض استعاداته البغدادية، التي لم تغادره، فيساكنه الوهم الفائق لسرديات الأمكنة الغائرة، تلك التي تُعذبه بصورها، لكنه يكتبها، ويستعيد تفاصيلها القاسية في المنفى الذي لا يقلّ قسوة ولعنة.
ثقيلٌ بالماءِ شَعرُ الغريق
الذي عادَ إلى الحفلة
بعد أن أطفأوا المصابيح
وكوّموا الكراسي على الشاطئ المقفر
وقَيّدوا بالسلاسلِ أمواجَ دجلة.
الشاعر سركون بولص امتهن الهروب نحو الحلم، نحو ذاته المهووسة الباحثة اللجوجة، نحو اكتشاف العالم بواسطة المزاج، أو بواسطة التمرد عليه، وربما أراد عبر الإفراط بأحلامه أن يتلبس قناعاً يشبه إلى حدّ ما قناع  أحمد بن فضلان ويرحل إلى ما هو متسع، بحثا عن حريته، تلك التي تلمس الطريق إلى قلقها في رحلته الوجودية نحو الشمال البارد والضاج، الشمال الاستعماري، الشمال المعرفي والإنساني، ليرسم  خريطة سرية  للغة والجسد، كي يتوغل فيهما عاليا نحو عوالم تتيح له ارتكاب المزيد من صناعة الأوهام والغوايات، تلك التي كانت تدفعه للذهاب بعيداً نحو اللامكان، خاصة أن الفضاءات السياسية في العراق بدت أكثر إنهاكا وقهرا، وبالطريقة التي لم تتح للشاعر أن يمارس غوايات هامشه الشعري، ولعل مجموعته الأولى (الوصول إلى مدينة أين) هي الهاجس القلق الذي دفعه إلى هذه المتاهة، ولمواجهة ذاته «المسيحية» الضائعة، تلك التي جعلته يجر الموت معه، أو يجرّ الحياة وراءه كما قال أنسي الحاج..

المنفى بوصفه وعيا مضادا

يقول فخري صالح «إنَّ مفهوم المنفى ذو طبيعة معقدة؛ إنَّه مفروض ومرغوب، يجري السعي إليه وتفضيل الإقامة فيه، وكذلك ذمّه بوصفه حالة من الإبعاد والاغتراب، الذي يدفع المرء إليه أو يجبر على عناقه. ولذلك يبدو تعريف الناقد الأسترالي بيل أشكروفت وزملائه، في كتابهم «المفاهيم الأساسيَّة لدراسات ما بعد الاستعمار» عن المنفى بأنَّه يقابل فكرة الانفصال والابتعاد عن الوطن الأمّ، أو عن الأصل الثقافي أو العرقي».
هذه المقاربة تضع إدوارد سعيد أمام صراع خفي، استثار عبره عقدة الهوية، وعقدة علاقته بالمكان أو بالآخر، وعقدة البحث عن المعنى، فلا شيء بريء هنا، وكلّ الأشياء تتحول إلى أشباح تطارده، فهو العالق، والمهدد، والمتورط برؤية المنفى بوصفه وعيا مضادا، إشكاليا، يبادله أسئلة الطرد والعزل والخوف والانتهاك، مثلما يجعله ينظر للتاريخ والآخر بريبة، وللخلاص الثقافي من مرجعية الباحث عن ذلك المعنى، والوجود، وعن خطاب الجماعة الثقافية التي يتشيأ وجودها في «اللامكان» وهذا بطبيعة الحال يجعل مصطلحا مثل «الاستعمار» يتحول إلى مفهوم أنثروبولوجي للسيطرة، وللعزل، ولوضع «صورة الفلسطيني» بديلا عن «صورة اليهودي التائه» كما في الميثولوجيا القديمة، إذ يكون المنفى هو الوجه الآخر للمتاهة، ولوضع اللغة أمام رهانات صعبة، يفقد فيها «التابع» علاقته الحميمة بالمكان والهوية، مثلما يخضع إلى إيهامات مركزية الآخر عبر التعايش مع ميثولوجيا مضادة، يستعيد معها أساطير قديمة، عن ملوك، أو عن علامات وهياكل، تلك التي يمكنها أن تتحول إلى أنساق تعويضية عبر الكتابة، وهو ما قاله محمود درويش في حواره المتخيل مع سعيد..
هل المستحيل بعيد؟
يحب الرحيل إلى أي شيء
ففي السفر الحر بين الثقافات
قد يجد الباحثون عن الجوهر البشريّ
مقاعد كافية للجميع.
هنا هامش يتقدم، أو مركز
يتراجع. لا الشرق شرق تماما
ولا الغرب غرب تماما
فإن الهوية مفتوحة للتعدد
لا قلعة أو خنادق..
اللغة هنا تصلح للمناورة، ولأنسنة الوهم، ولتغريب الاستعارات، وبما يجعل مفاهيم قارّة مثل، المكان والهوية واللغة، أمام لعبة قاسية للمحو، فالوطن المادي يتحول إلى رهان حر للشعر، وللأسطورة، والهوية تتشظى لتبدو وكأنها مجالا طلسميا له شيفراته وأشباحه وأسفاره، والمكان يفقد علاماته واتجاهاته ليبدو هو الآخر وكأنه «ضمن محيط غير مضياف، تحكمه قوَّة عسكريَّة عليا، تستخدم رطانة إدارة حكومية تؤمن بالطهارة العرقية الخالصة» كما يقول إدوارد سعيد.
وعي المنفى هو وعي ضدي دائما، لأنه يعمد إلى ترميم الفراغ، عبر اللغة، أو عبر استعادة شهوة المكوث كضدٍ نوعي للطرد، وإلى تغويل الهوية عبر تغويل البنى الاستعارية وشيفراتها في اللغة، وعبر تحوّل الذات المؤلفة إلى ذات راوية، تحضر معها الروح الشهرزادية، التي تواجه الموت بالحكي، والميثولوجيا بالسرد المضاد، وأحسب أن استشراقات إدوارد سعيد تجوهرت حول فكرة الأرض المفقودة والشرق المطرود، أو الذي حاول الآخر إخضاعه إلى شهوة السيطرة، ليبدو متخيلا وليس واقعيا، وصالحا للغزو والاستبعاد والقهر، لأنه منهك بسبب التاريخ الذي صنعه الآخرون أيضا، بدءا من هولاكو الذي دمّر «بغداد» بوصفها أهم مركز عربي للثقافة والمكوث الحضاري، ليصطنع عبرها مدنا لها امتياز المنافي، مهددة، ومحاصرة، وتساكنها هويات مهجوسة بالخوف من الغزو والطرد والسبي، مرورا بالاستعمارات القديمة التي بدأت سردياتها التبشيرية عبر الإرساليات الإسبانية والبرتغالية، وبعد مرحلة دخول نابليون إلى مصر، وبدء احتلال فرنسا إلى الجزائر وإيطاليا إلى ليبيا، وصولا إلى الاستعمار الحديث، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وإعلان وعد بلفور وبدء التغريبة الفلسطينية، وانتهاء بهجرات القوارب، وخيار البحث عن منافٍ بلا طغاة، وحروب، حيث تتعوّض خائنة «الأمكنة الوطنية» بما يشبه اليوتوبيا التي تغوي الكائن بغواية «الهجرة إلى الإنسانية» كما سمّاها فتحي المسكيني..

*القدس العربي