عليوي الذرعي: هل ماتت نظرية موت المؤلف في عصر وسائل التواصل الاجتماعي؟

0

طرح رولان بارت فكرة موت المؤلف في مقال نشر عام 1967، سرعان ما تحولت الفكرة البسيطة إلى نظرية نقدية مثيرة للجدل بعد أن تم تداولها على نطاق واسع. الفكرة بشكلها المبسط كما وردت بمقال بارت؛ هي أن نفصل بين الكاتب والنص، وكأننا لا نعرف شيئاً عن الكاتب، ونتعامل مع النص كتراكيب لغوية فقط.

في مقدمة مقاله يعترف بارت، أن الناقد الفرنسي ستيفان مالارميه هو أول من طرح فكرة الاستعاضة بالنص كلغة عن الكاتب ذاته، وهذا ما يتوافق مع رأي الناقد المصري عبدالعزيز حمودة في كتابه “المرايا المحدبة” الذي يقلل من شأن النظرية إذ يعتبر أن المؤلف مات منذ أن اعتمدت الحركة النقدية النموذج اللغوي، ومقال بارت مجرد تصريح رسمي بالوفاة.

وهناك من يعتقد أن بارت لم يقصد استبعاد المؤلف تماماً، وإنما قصد صَهرهُ في النص من خلال التعامل مع المؤلف كمُنتَج قبل أن يكون مُنتِجاً للنص.

نصوص حية نحرت مؤلفيها

يمكن اعتبار كتاب ألف ليلة وليلة مثالاً على نص مات فيه المؤلف، فالمؤلف مجهول الهوية، وكذلك الأمر في رسائل إخوان الصفا؛ فكتابها مجموعة من الفلاسفة غير المعروفين. لدينا أيضاً مثال معاصر عن موت المؤلف يتمثّل بالكاتب/ الكاتبة الإيطالية إيلينا فيرانتي، فعلى الرغم من أن هويتها الحقيقة غير معروفة فإن روايتها “صديقتي المذهلة” أدهشت النقاد والقراء، وصنفت من أكثر الروايات مبيعاً، وتحولت إلى مسلسل تلفزيوني مشهور بأربعة أجزاء.

هناك دراسات كثيرة بحثت عن شخصية المؤلف من خلال تحليل نصوصها، والمدهش أن جميع تلك الدراسات لم تصل إلى معلومة يقينية واحدة، حيث رجحت بعض الدراسات أن هوية فيرانتي ترجع لكاتب يدعى دومينيكو ستارنوني. دراسات أخرى استنتجت أن فيرانتي هي المترجمة الإيطالية أنيتا رجا.

تشديد فيرانتي على سرية هويته/ ها، هو تجسيد معاصر على موت المؤلف، فبالرغم من كثرة الدراسات المقارنة لأسلوب كتابته/ ها؛ لم يتمكن الباحثون من تحديد جنس الكاتب بشكل يقيني ولا تزال دراساتهم مجرد تخمينات.

لسان حال شخصية فيرانتي يقول لنا إن المؤلف لهذه النصوص ميت، ولا علاقة لكم بحياته الشخصية، تعاملوا مع النصوص فقط.

تحضر فكرة موت المؤلف بقوة في المسابقات الأدبية، حيث تُقيّم النصوص من دون معرفة أسماء المؤلفين، لكنه موت جزئي ينتهي بإعلان النتائج.

موت المؤلف ووسائل التواصل الاجتماعي

قصرت وسائل التواصل الاجتماعي المسافة بين المؤلف والقارئ، فأصبح الكاتب على احتكاك مباشر مع القراء، يقرأ تعليقاتهم ويتفاعل معها؛ وقد يفسر الكاتب نصه بنفسه، ويصحح للمتابعين بعض مفاهيمهم المغلوطة حول النص. لذلك بدأت دور النشر بتفضيل الكتّاب الذين ينشطون على وسائل التواصل ولديهم متابعين؛ أي أن الكاتب النشط على وسائل التواصل الاجتماعي أصبح يملك ميزة تنافسية في تسهيل عمليات التسويق والمبيعات.

هذه الميزة التنافسية؛ جعلت المؤلفين أكثر تفاعلاً مع متابعيهم على تلك الوسائل، وأصبحت منشوراتهم تخضع لمقاييس تسويقية بحته، لينتهي المؤلف مسوقاً لدور النشر، خاضعاً لشروط المسابقات الأدبية، ومجبراً على التفاعل مع المتابع الذي قد يكون قارئاً وقد لا يكون.

لكن الحضور الدائم للمؤلف على منصات التواصل الاجتماعي، لا يعني أن نظرية موت المؤلف قد ماتت؛ لأننا كقراء قد نقبل تفسيراته لنصه، وقد نخالفه ونرى بنصه ما لم يره، وبذلك فإننا نقتل المؤلف ونحيي النص.

“بم تفكر يا مؤلفنا العظيم”.. بمثل هذه العبارة اللطيفة يطالعنا الفيس بوك وغيره من وسائل التواصل، كل دقيقة وثانية، وبما أن المؤلف حريص على الوجود على هذه الوسائل فلا بد له من الإجابة.

ومع مرور الزمن تتراكم الأجوبة، ويتعرى المؤلفون أمام قرائِهم، تعرّياً معنوياً قد يرافقه في بعض الأحايين تعرٍ جسدي في حال نشروا صورهم على شاطئ البحر مثلاً.

المؤلف حَيّ على وسائل التواصل ..هل ماتت نظرية موته؟

لعملية القراءة أركان رئيسة تتمثل بالمؤلف والنص والقارئ والعلاقة بين هذه الأركان تتسم بالغموض والتعقيد، فإذا استعرضنا تاريخ تطور النظريات النقدية، نجد أنها بدأت بالانشغال بالمؤلّف ثم انتقلت للانشغال بالنص ثم القارئ أو ما يسمى بنظرية التلقي.

جاءت النظرية كردة فعل على المبالغة بالاهتمام بالمؤلف، والادّعاء بمعرفة جميع تفاصيل حياته، ودراسة النص من خلال هذه المعرفة الموسوعية بالمؤلف، فبموته أصبحت دراسة النص الأدبي بمعزل عن المؤثرات التي يخضع لها.

لكن بعض الكتّاب ذاتيون، أي أن نصوصهم على علاقة وثيقة بهم، والبعض الآخر يمتلكون القدرة على تقمّص ذوات بعيدة كل البعد عنهم؛ ولذلك من الصعب إطلاق الأحكام بموت المؤلف أو حياته في النص.

أما الارتباط الأقوى لنظرية موت المؤلف فهو مع القارئ أي بطريقة التلقي، والتلقي في عصر وسائل التواصل الاجتماعي تغير كثيراً عن طريقة التلقي في عصر بارت.

بالعودة إلى السؤال: بما أن المؤلف حَيّ على وسائل التواصل.. فهل ماتت نظرية موته؟

هناك تداخل معقد بين المؤلف والنص والمتلقي، ولا توجد وصفة جاهزة تنطبق على كل النصوص والمؤلفين، فلكل نص تفرده ولكل مؤلف خصوصيته؛ ولكن بالعموم عندما ينشر المؤلف نصه، يصبح ملكاً للقارئ وكلما ابتعد الكاتب عن ذاتيته وتوارى خلف شخصياته، كان النص أكثر قيمة. وبذلك تتحقق مقولة “إن في موت المؤلف حياة لشخوصه”، ويبقى هناك جسر خفي بين المؤلف وبين النص، لا يمكن قطعهُ، فذات الكاتب منصهرة بالنص، ومستوى إبداعه تكمن بمدى قدرته على إخفائها وطمس معالمها.

*تلفزيون سوريا