محمد حسين السماعنة
مجلة أوراق العدد 13
سرد
ولما رأى المختار أن أحوال القرية تسير من سيئ إلى أسوأ، وأنها تتناقلها النوائب وتتناوبها المصائب؛ فالجفاف يسلمها للجراد، والكلاب تسلمها لهجمات الذباب، والحزن يسلمها للحسرة وهجمات الذئاب وقلّ لذلك مادحو المختار وقلّ شاكروه، فنام وقام ثم نام وقام، ثم مشى وحام ودار حتى تجمعت وانتظمت في عقله الأفكار فقال للقطروز: اجمع لي أهل القرية كلهم، فإني وجدت الحل لما يحل بهم، فصعد القطروز مئذنة المسجد الكبير ونادى يا أهل القرية الكرام، مختارنا الهمام جاءه الإلهام، ويطلب منكم الساعة الحضور لمضافته، عالي المقام ليطلعكم على المستور وعلى ما جدّ من الأمور.
وركض أهل القرية إلى المضافة رجالاً ونساء فارعين دارعين راكبين وحفاة مسرعين يدفعهم الفضول ويعجل بهم ما يُطعمهم إياه مختارهم من الفول.
مشى المختار بين الفلاحين الذين اصطفوا في صفين طويلين، ورحب وهلّا، وبش وتجلى، وتنحنح ولوّح، ثم جلس وعرّش ثم أشار بإصبعه للقطروز أن يطلب منهم الجلوس فجلسوا، ثم أشر بإصبعه للقطروز أن يسكت الهمهمات التي علت، والوشوشات التي ارتفعت، فقام القطروز وقال: سمع سممممع سمعونا!
فسكتت الألسن المتذارية والأفواه المتعاركة والأصابع المتشابكة وعم السكون وران الصمت.
وقف المختار ورفع (تشبره) على كتفه، ثم تنحنح، ثم نظر وسلم وقال بصوت كله نعومة ودفء:
قد ساءني ما أصاب حقولكم، وما يصيب بيوتكم، واتعبني انحباس المطر، وجفاف الماء في الحفر، ويباس الأشجار وموت الأطيار، ونفاد الطعام، وضنك هذه الأيام، فبقيت أنا وأهل بيتي في صلاة وصيام، ودعاء وقيام، حتى وهنت أجسادنا وذبلت أكبادنا، وظللّنا على هذه الحال من الصلاة والسؤال حتى جاءني البارحة الإلهام للخلاص من هذا القتام.
فقام الفلاحون وصفقوا وهلّلوا وكبّروا وعيّشوا.
ثم لما سكتوا قال المختار بثقة المنتصرين:
وكلكم تتساءلون عن الحل الذي هُديت إليه والقرار الذي رَسوت عليه! سأقول لكم فاسمعوا وعوا،
يقول المثل لا يفل الحديد إلا… وسكت بانتظار أن تملأ الألسنة المحبوسة الفراغ باقتدار وإصرار، ولم يخب ظنه، فقد علا صوت الفلاحين يقول: إلا الحديد
فقال بزهو: ونحن لها، نحن لها سنفل الحديد بالحديد، سنرجع بأيام أعمارنا حتى نصل بها إلى الأيام الجميلة الهانئة.
فقام فلاح أرهق عقله الكلام وسأل: هل سنرجع بأعمارنا إلى الماضي الجميل، كيف ذلك؟
فقال المختار: منذ هذه الليلة، ومنذ الآن سنخالف رغباتنا وخطواتنا، سنمشي كلنا إلى الوراء، ونقول ما لا نريد، ونأكل ما لا نحب، وسنلتزم خطة فل الحديد حتى ينكسر النحس القديد الشديد.
– يا مختارنا الحبيب: مشينا كلنا القهقرى نتخبط في خطواتنا ونقع ونسقط ومضى الليل ونحن في تيهنا.
– يا مختارنا، ولما رأت النساء أن ساعات الليل انقضت قلقن، وأتين يبحثن عنا.
– لولاهن لما وصلنا ولما سلمنا، ولمتنا وانتهينا.
المختار بغضب: منذ الآن ستسير القرية كلها، رجالها ونساؤها وأطفالها إلى الخلف حتى نرجع الأيام إلى دولابها.
ومشت القرية كلها القهقرى.
زوجة المختار بدلال: وهل عليّ أن أمشي القهقرى أنا أيضاً؟!
المختار وهو يبرم شاربه: هم سبب النحس وعليهم وحدهم أن يعيدوا دولاب الأيام إلى مساره!
كانت ليلة طويلة على رجال القرية الذين تقهقروا إلى بيوتهم إذ لم يصل منهم إلا الطبش، وخالد الفوال، وأما الرجال الآخرون فقد تسللت نساؤهم لجرهم إلى بيوتهم في غفلة من القطروز.
وجاء الصباح ركيكاً شاحباً مثقلا بآهات الرجال الذين تناوشت أجسادهم الدروب، وأبقتهم على بسط متكئين، فقد غدت فكرة الذهاب إلى الحقول قهقرة تجعلهم يرتعشون ألماً وخوفاً..
وسمع القطروز تذمر نساء القرية، وأشهد عليه مجموعة من الشباب الذين كانوا يتابعون دخوله وخروجه من عند المختار بانبهار.
وقف المختار محتدا غاضبا وقال: علينا أن نقلب شيئا رئيساً في حياتنا ليعود زمان الخير، فقال له القطروز يا مختارنا الغالي، لم لا نقلب لغتنا؟
فركض أهل القرية إلى المضافة فرحين بما جد واستجد، وأنصتوا إلى القطروز وهو يشرح كيف يقلبون الكللمات:
محمد إذا قلبناها تصبح دمحم، وحسين نيسح، وعلي يلع.
قام المختار معكم حتى الصباح، فتدربوا ونساءكم على قلب اللغة؛ ففي ذلك معاشكم وحياتكم وسعادتكم وتغير أحوالكم.
أبو علي الفران بتأتأة واضحة: نينح بباح
برشأ ياش؟
تكتب أم علي الفران الكلمات على ورقة وتهز رأسها فرحة وتقول: ام شيف ياش لاو ركس
أبو علي الفران يكتب ما قالته أم علي ويقلبه وهو يهز رأسه.